ولعل الأمريكان صادقون حين يعرضون في هيئة الأمم المتحدة على الروس مشاريعهم لخفض التسلح ومراقبة القنابل الذرية وحل الخصومات السياسية بين الدول عن طريق المفاوضة السلمية واحترام الحدود الجغرافية والمواثيق الدولية وما يوفره القانون الدولي من معاول لصيانة السلم وإبعاد شر الحروب بواسطة الأمم المتحدة أو عن طريق المعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف، وذلك لأن الأمريكان قد عاشوا في عزلة عن العالم الخارجي طوال تاريخهم القصير فلم يسبق أن اعتدى عليهم عدو قاس كنابليون وهتلر وتيمورلنك. فحروب الأمريكان كانت حروبا خارجية في ميادين تفصلها عن أمريكا قارات ومحيطات.
ولكن من الصعب على العقلية الروسية والأوربية إجمالا أن تمد يدها إلى الخصوم بمثل هذا الصفاء، وأن تأخذ المعاهدات الدولية لصيانة السلم في طيبة قلب وثقة تامة. فقد مر بالشعوب الأوربية (روسية وغير روسية) أحداث خرقت فيها العهود وأصيبت هذه الشعوب من جراء ذلك بالأحداث والويلات والكوارث.
فلا غرابة إذن أن تلمس اتجاها ملحوظا بين دول أوربا الغربية في مخالفة الأمريكان في سياستهم نحو الاتحاد السوفييتي. فحين قدمت موسكو في الآونة الأخيرة عروضا جديدة لحلفاء الغرب لتسوية المشكلة الألمانية وتفادي إحياء البأس العسكري الألماني. وجدت هذه العروض الروسية صدى حسنا في أوربا الغربية بينما أصر الأمريكان على رفض هذه العروض الروسية. فذكريات الحربيين العالميتين الأخيرتين والحروب الأوربية السابقة لا تزال تؤثر في عقلية الرجل الأوربي فتجعله أميل إلى مساومة الروس منه إلى الدخول معهم في حرب طاحنة. أما الأمريكي فلا تزال في باطنه (انعزاليا) يعتقد بأنه مستطيع أن يربح أي حرب جديدة يشترك فيها دون أن يجعل الوطن الأمريكي ميدانا. ومن ثم نستطيع أن نفسر حماس الأمريكان لإنشاء القواعد العسكرية في أوربا وآسيا وأفريقيا وبذل المال والجهد لتقوية الجيوش الأوربية الحليفة وتنظيم الدفاع عن الشرق الأوسط وإعادة البأس العسكري لليابان على احتساب أن اليابان خصم تقليدي للاتحاد السوفييتي.