بالمقارنة جعل من الممكن ملء الفجوات التي تبدو بين معالم الثقافة القديمة، والاهتداء إلى الأصول المجهولة، والتي كانت تعترض القدماء، فيعللونها بالفرض، أو يصلونها بالخيال، أو ينحرفون بها إلى الخرافة!
ومسايرة لهذا المنطق، بدا أن دارس العربية لكي يستفيد منها ويتبين حقائقها، وينير قضاياها، عليه أن يكون عارفا ما استطاع بأخواتها من الفصائل السامية، كالعبرية والسريانية واليمنية القديمة والحبشية، وما جاورها من لغات أخرى، كالفارسية والآرية والتركية، في حدود القدرة والتخصص.
روعي هذا النهج عندما أنشئت كلية الآداب بالجامعة المصرية القديمة، ودعا إليه الدكتور طه حسين دار العلوم العليا في حرارة وقوة عام ١٩٣٥، عارضا عليها أن تضم إلى الجامعة، على أن تحتفظ باسمها التاريخي المجيد، لتكون معهدا للغة العربية واللغات الشرقية، ولم يقف بدعوته عند هذا الحد، بل اقترح أن تبدأ العناية بهذه اللغات من التعليم الثانوي، لمن يريدون أن يتخصصوا فيها، لكي تكون دراستهم منتجة مثمرة.
ولم يتح لدعوة الدكتور طه حسين أن تجد سميعا إذ ذاك، فطواها على مضض وإن لم ييأس منها، ومضى يهيئ لها الأذهان حتى اختمرت، وأذن لها أن تؤتى أكلها عام ١٩٤٦، حين ضمنت دار العلوم إلى جامعة القاهرة، لتنتفع بالنهج الجامعي وحريته، ولتأخذ في ركب الحضارة وجهة جديدة، توائم التطور الثقافي الذي انتهى إليه العالم ومصر عقب الحرب العالمية الأخيرة.
أجل، كانت دار العلوم المدرسة قد أدت رسالتها في تنقية الفصحى من أوشاب العامية، وتحرير الألسنة من اللكنة الأعجمية، وفي إعداد المدرس الصالح لأدائها، والكتاب الطيب الملائم للقراءة، وفي تطوير اللغة لتصبح مرآة ناصعة، تنعكس عليها مظاهر الرقي المتعددة، وتتسع ألفاظها للتعبير عن أسمى المشاعر والأفكار. . . . وبقى الشق الآخر من الرسالة، وهو البحث والتقصي والعكوف على القديم لدرسه ونقده وتمييزه، وتتبع مساربه ومجاريه، بعد أن هيئت الوسائل وأكملت الأداة!
ومن ثم شفع ضمها إلى الجامعة إفساح المجال فيها للدراسات السامية والشرقية على الخيار بين واحد منهما، وأحس الطلاب أن شيئا جديدا من الثقافة بدأ يأخذ طريقه إلى أذهانهم،