(٣) ولكنا اشترطنا أن تجود الأرض بأكثر من حاجة الاستهلاك، وهذا متوفر في مصر. فقد كان البلح والذرة هما النبات الرئيسي الذي تجود به أرض مصر جود الكريم، وبذلك يصبح تحصيل القوت ميسورا، وإذن فزيادة السكان نتيجة محتومة، إلى آخر ما يتبع ذلك من نتائج. وبعبارة واضحة، لعلها لا تدهش القارئ بعد التحليل الذي بسطناه، إن نبات الذرة في مصر هو السبب الأساسي الذي دفع المدنية المصرية إلى الظهور. ومما يؤيد هذه النتيجة أن المدنية المصرية نشأت أولاً في الوجه القبلي لأنه اصلح لإنبات الذرة، حتى يقال أن زراعته انتقلت منه إلى الوجه البحري في وقت متأخر، ولا يزال صعيد مصر يزخر بآثار تلك المدنية العظيمة التي تنهض دليلا على ذلك.
ومما يؤيد زيادة السكان، التي نتجت عن وفرة الطعام، ما ذكره هيرودت من أنه وجد في مصر عند زيارته لها عشرين ألف مدينة عامرة. وقد أدت زيادة السكان طبعاً إلى نقص الأجور وتفاوت الطبقات تفاوتا عظيماً، بلغ حد التأليه للملوك، ونزل بطبقة العمال إلى هاوية التسخير غير المأجور، كما يتضح من بناء الأهرام وما إليها.
ليست أحداث التاريخ فوضى لا ضابط لها كما يتبادر إلى الأذهان التي تقف عند النظر السطحي، ولكنها تبدو للذي يستبطن دخائلها، خاضعة لقانون محكم لا يشذ، ومنطق سليم لا عوج فيه ولا التواء.