للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقيام المدنية يتوفران في الجهات الدافئة قبل الباردة.

يحسن أن ألخص هذا التفصيل في سلسلة منطقية يسهل استيعابها حتى لا تتشعب أطراف الموضوع، فيفقد القارئ الرابطة التي تصل بعضها ببعض: زيادة السكان تتبع كثرة الطعام ولما كان الطعام الضروري للحياة أكثر في الجهات الحارة منه في الجهات الباردة فقد أزداد عدد السكان في الجهات الحارة بنسبة أكبر من الجهات الباردة ولكن ازدياد السكان يؤدي إلى قلة الأجور.

ثم يؤدي هذا بدوره إلى ازدياد الثروة عند الطبقة القوية. إذن فالطبقة غير المنتجة تظهر في الجهات الحارة قبل ظهورها في الجهات الباردة. ولما كانت نشأة العلوم (أي المدنية) رهينة بوجود هذه الطبقة غير المنتجة التي تستطيع أن تتفرغ للتفكيرفالنتيجة المنطقية لكل هذه المقدمات هي أن المدنية تشأ في الجهات الدافئة قبل نشأتها في الجهات الباردة، ولكنها إذا ما نشأت في هذه الجهات الأخيرة، كانت أقوى أساساً لما ذكرناه من إنها في تلك الجهات نتيجة لتأثير المناخ في الإنسان، في حين إنها في الجهات الدافئة نتيجة لتأثير المناخ في التربة، ولذلك نراها تسير نحو الجهات الباردة كلما ارتقت وازدادت قدمها رسوخاً، ولو أنا تصفحنا التاريخ على عجل للاحظنا لأول وهلة إنها نشأت في مصر (وهي منطقة دافئة) ثم أخذت تسير نحو الجهات الباردة شيئاً فشيئاً، فقد انتقلت إلى الشرق الأدنى، ثم إلى اليونان، ثم إلى إيطاليا، ثم إلى أواسط أوروبا، وهي الآن رابضة في شمال غربي أوروبا، ويتنبأ بعض الكتاب بأنها ربما استقرت في اسكندناوه في مستقبل أيامها، وهناك من الدلائل ما يؤيد ذلك.

لقد شرحنا فيما سبق القواعد العامة التي تتحكم في قيام المدنيات، ورأينا إنها نتيجة منطقية لمقدمات طبيعية، وإنها لا تخبط خبط عشواء في سيرها. ويجمل بنا الآن أن نطبق تلك القواعد الشاملة على نشأة المدنية المصرية زيادة في الإيضاح. ذكرنا أن بواعث المدنية هي:

(١) اعتدال الحرارة لأن الحرارة الشديدة تشل قوة التفكير

(٢) خصب التربة

وهذان الشرطان متوفران في وادي النيل، فهو في المنطقة المعتدلة الدافئة، وتربته غنية

<<  <  ج:
ص:  >  >>