يهدي أساتذتها إلى التفرقة بين ملكات العلوم وملكات الآداب، فقد اضرب عن تعليم الرياضة، بل أضرب - كما قال لي - عن فهمها ومذاكرتها. وذهب مع زملائه مرة في زيارة من زيارات التدريب التي تمتحن فيها خبرة المعلم الناشئ بصناعته، فكان زملاؤه يختارون درسا في الحساب أو درسا في الجبر أو درسا في تقويم البلدان، وأبى هو إلا أن يختار لدرسه أبياتا من الشعر العربي، ويشرحها على طريقته ويتكلم عن ناظمها، ويبين في سياق شرحها مزايا الشعر العربي بالقياس إلى أشعار الأمم الأخرى).
واستطاع طلبة الدفعة الأولى بالمدرسة - وكانوا سبعة وعشرين طالبا ليس إلا، أصغرهم سنا صاحبنا المازني - أن يقفوا أوقات فراغهم، في المدرسة، على المطالعة الخاصة. وكانت لهم في الأسبوع ثماني ساعات لا يتلقون فيها أي درس. ووجدوا الحث والتوجيه والتشجيع من الناظر والأساتذة. ويقول المازني عن ناظر المدرسة الإنجليزي لذلك العهد، الدكتور دليني، أنه كان عالما واسع الإطلاع، (فكان إذا رآني أستعير كتابا من مكتبة المدرسة يعدني بأنه يعيرني كتابا من عنده في موضوعه، وينجز وعده، ثم يتركني أياما، حتى إذا لقيني مصادفة في فترة من فترات الاستراحة بين الدروس، أقبل على وراح يحدثني من الكتابين، دون أن يسألني عنهما، أو عما قرأت منهما، ثم يمضي عني. فكان هذا يضطرني إلى العكوف على الكتب وكانت هذه إحدى وسائله لتشجيعنا على القراءة والإطلاع).
ومن المحامد التي تذكر لمدرسة المعلمين، ولناظرها الدكتور دليني على التخصيص، أنه كان أول من ثنى عنان الاهتمام في نفوس تلاميذه نحو طائفة من أدباء الإنجليز ونقادهم من أمثال ماكولي وكارليل وهازلت ولي هنت. فشاعت كتبهم بين ناشئة ذلك الجيل وساعدت على تنوير الأذهان وتحويلها إلى معنى الأدب الصحيح.
ولا ريب أن ما لمسه المازني من هذه الروح قد شحذ فيه موهبته الأدبية، فأقبل على الدرس والقراءة والتحصيل، وحفزه الجو الذي كان يضطرب فيه وتمتلئ بهوائه كلتا رئتيه، إلى المثابرة والتوفر على ثمار القرائح في شتى الآداب. وكان من زملائه في المدرسة من له مثل ميله إلى الأدب والكتابة فاتصل بهم، وعرف منهم في ذلك الحين الطالبين محمد السباعي وعبد الرحمن شكري، وكان كلاهما واسع الاطلاع على الأدبين