وقد بلا المازني معاناة هذه الكتب في عهد الطلب، وراض نفسه على الجد والتشدد ومصابرة الجهد في سبيل لوصول إلى غايته وإشباع رغبته.
ونسوق هنا قصته مع كتاب (الأغاني) وكان من أول ما اقتنى من الكتب، وكانت نسخته التي وقعت له من طبعة ناقصة مشحونة بالخطأ والتصحيف في كثير من مواضعها. فعمد إلى أجزائه يفكها (ملازم) وجعل يحملها معه ملزمة ملزمة إلى دار الكتب ويراجع النصوص نصا نصا، وبيتا بيتا، ويدون التصحيح أو التكملات على ورق أبيض أعده لذلك، وصار يلصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، وهكذا إلى آخر الكتاب بأجزائه التي تربو على العشرين.
ومثل ذلك قصته مع ديوان (الشريف الرضي) - والشريف أول من اتجه إليهم المازني وآثرهم بميله من شعراء العربية - فقد وقعت له نسخة من مطبوعة الهند، ويقول المازني أنه لم يسلم فيها بيت واحد من التحريف والتشويه حتى أعياه فهم الديوان وكاد اليأس أن يصرفه عنه. على أنه أقبل عليه يعالج تصحيحه، وقضى في ذلك قرابة عامين، يوفق حينا ويخفق أحيانا. حتى عثر في النهاية على نسخة من طبعة بيروت - وهي أسلم وأصح في مواضع - فاستراح إليها.
أما قصته مع ديوان (ابن الرومي) فهي أعجب. ذلك أن الديوان بقى مخطوطا منسيا يكاد لا يذكره أحد، حتى التفت إليه أساتذة المذهب الجديد. فشرع المازني في نقله عن إحدى نسختيه - وصادف أنها كانت أردأهما خطا وأكثرهما غموضا - ثم عكف عليه سنوات طويلات المدد، يعالجه بالضبط والتصحيح ورد المحرف والمصحف وما أكثره. وأغرى بحفظه حتى كاد أن يأتي عليه.
تلك كانت، في حياة المازني، بداية الشوط وفاتحة الكتاب. . وهي بداية لمتكن تبعث كثيرا على الأمل أو تغرى بالثقة والاطمئنان، فقد كانت في جملتها تجربة قاسية من تلك التجارب التي تمتحن بها معادن الرجال؛ اتسمت، كما رأينا، بالعسر والجهد والكفاح، وزادها وطأة على وطأتها ما كان يحتدم بنفس المازني الشاب من إرادة الحياة وقوة الإحساس بها، وما كان يرد عليها من عواطف ومشاعر لم تكن لتجد سبيلها إلى الاستعلان بله الانطلاق. ولقد كان صبر المازني على هذه لتجربة القاسية وصموده لها إحدى عجائب بنيته المستدقة التي