ولهذا، وعلى الرغم من أن تونس ليست إلا قطعة صغيرة من شمال أفريقية، فإنه يجب أن نتتبع بمنتهى الاهتمام ما يدور في المجتمع التونسي العقلي؛ وهو اهتمام يجب أن يقرن بالعطف، لأن هذا المجتمع هو الذي يحمل أعباء التعقيد وأزمات الضمير، وما يترتب حتماً على مثل هذا التطور النفسي الهام من أسباب الجزع والاضطراب؛ ومن هذا المجتمع وحده يمكن أن يأتي حل المسائل الاجتماعية الشائكة التي تعرض للبحث، وليس من ريب في أن الموقف الذي يتخذه هذا المجتمع يكون ذا أثر قوي في باقي أنحاء البلاد
ونستطيع أن نتكهن بشيء من المستقبل؛ فقد أثبتت الطبقة المتوسطة التونسية إمكان التطور المتناسق في ظل أفق فرنسي؛ وقد ظهر فيها مجموعة من الكتاب والمؤرخين والعلماء والصحفيين الذي يكتبون بالفرنسية؛ ونجد حتى في ظروف الأسرة، وفي الظروف الاجتماعية، ما يدل على تسرب الحياة الحديثة بقوة، وهي حركة اختيارية لأنها تسير حرة دون ضغط ما، وبعد تأمل عميق
ونستطيع أيضاً أن نقرأ في أمثلة يقدمها لنا الماضي مبلغ التعاون بين المسلمين والنصارى، فعلى مقربة من تونس وقعت الحالة الأولى والوحيدة في العصر الحديث للتعاون بين هؤلاء وأولئك؛ ومن الغريب أن ممثلي هذه التجربة العظيمة كانوا فرنسيين وتونسيين؛ ففي مملكة النورمان الصقلية التي يعمرها سلالة الفاتحين الأغالبة، ازدهرت أعظم حضارة في العصر، واشترك في إنشائها النورمان والمسلمون، وكانت بالرم يومئذ هي أعظم مجمع بين الشرق والغرب؛ وكان نجاح هذا التعاون الحر الذي تطاول زهاء قرن، أشنع فضيحة في العصر، في نظر المتعصبين من الجانبين
وقد استطاعت العبقرية الفرنسية أن تنسي في العصور الوسطى مجتمعاً شديد التناقض من حضارتين خصيمتين في كل مكان؛ واليوم إذ نستعرض ذلك المركز الذي حفظته لنا تونس القديمة، نجد أمامنا جامعة الزيتونة الموقرة - وهي قديمة قدم السوربون - ذات الحنايا المرمرية الجليلة، تحيط بها حوانيت الكتب والعطور؛ ثم نجد مكتبة عظيمة فرنسية على الأخص، أقيمت في قصر قديم؛ ثم نجد بعد ذلك فوق مرتفع يشرف على المدينة كلية الصادقي الواسعة التي أخرجت نخبة مختارة من المثقفين العرب، الذين استقوا أيضاً من الثقافة الفرنسية. وعندئذ نتذكر تلك المقدمة التي يهدي فيها الشريف الأدريسي أثره