(ما لي أرى الدم قد صبغ اللهيب والفضاء والأشجار؟ وما لساقي تغوصان من تحتي في الرمل القاني، وما لجناحي حين لمسا هذه الأغصان صبغتهما الحمرة؟
لقد صادفت في طريقي رجلا صالحا فتبعته حتى اغتسلت في المنبع خرجت وثوبي طاهر نقي ولذلك كنت أقول لريشي: قر عينا فإنك فوق كتفي هذا الرجل لن تحمل هما ولن تدنسك آثام. أما اليوم فقد أصبح نشيدي:
نوحي يا حمامة وابكي ثوبك الذي لطخه دم من اتخذت حماك بين ثدييه. أنه جاء ليصون لك بياض ثوبك ولكنه تحت حكم أولئك القساة بلل ريشك بندى جروحه.
هاأنذا أنوح على ثوبي الملطخ فأين أجد أخاك أيها المسيح ليفتح لي طرف ثوبه فأحتمي فيه؟ ومن ذا الذي يغسل بعد الآن الذي صبغه دمك؟)
وكأن المصلوب كان يستمع لنواح تلك الحمامة وريح الموت تحرك جفنيه، وسكراته تلوي شفتيه؛ غير أن نظراته اتجهت فجأة إليها كأنها توجه إليها لطيف العتاب. ثم صرخ صرخة مالت عنده رأسه إلى صدره فذعرت الحمامة وفرت، وقد اغبر وجه السماء واهتزت الأرض، ثم أخذت تبتعد حتى اختفت في ثوب الظلام.
أما أنا فأخذت أعدو وقد بزغ الفجر واستيقظت الطبيعة باسمة من خلال ضباب الصباح، وقد اختفت زوابع الليل فعاد للسماء صفاؤها، وعادت للأشجار نضرتها؛ ولكن الطريق كانت لا تزال تكسو جانبيها الأشواك، ولا تزال ساكنة في فجواتها الزواحف التي كانت تقف في طريق سيري بالأمس. نعم إن دم المسيح جرى في شرايين الأرض القديمة من غير أن تعود إليها نضرتها الأولى.
على أن البوق لا يزال يسمع صوته من بعيد فصاح جنوص في رفاقه قائلا:
(ألم تشعروا يا أولادي بقسوة هذه المهنة؟ لقد أزعجتكم تلك الأشباح في نومكم كما أزعجتني مثلكم ساعات طويلة. إن لي الآن ثلاثين سنة لم أقضها في غير قتل بني جنسي حتى سئمت نفسي. وإنني أعرف أن هنالك أراضي واسعة في حاجة إلى سواعد ومحاريث، فهلا ترون أن نتذوق بعد ذلك طعم الخبز الذي يخرج من كدنا؟)
وعند ذلك صاحوا جميعا: نعم
ثم أخذوا يهيئون حفرة يدفنون فيها سلاحهم وبعد أن اغتسلوا في النهر اختفوا بين ثنايا