ورثة الفراعنة وحماة الإسلام، انصهرت في نفوسنا ديانات روحية تثير الوجدان، وتنشط العقل؛ فلقد حفزت عقيدة الخلود على تأسيس حضارة برعت في العلوم والفنون، وحض الإسلام على تكوين إمبراطورية فسيحة الأرجاء تدين بتعاليمه، ودعا إلى قيام حضارة جدت في خلق كثير من العلوم والفنون. فالمشاعر الدينية والعواطف الروحية تلعب على الدوام دورا هاما في تطور حياتنا الثقافية. ولقد سبق أن أخبرنا التاريخ بأنه ما من فترة ضعف فيها الوازع الديني في نفوس قدماء المصريين، وخبا نور الإسلام في قلوب المسلمين، إلا اضمحل الفكر؛ وتأخرت الحضارة، وتفككت أوصال البلاد، وتدهورت أحوالها، وتعرضت للغزو الأجنبي.
ألا يوحي كل ذلك بأننا لا نملك أن نقيم حضارة تخرجنا مما نحن فيه من تخلف فكري ما لم نفزع إلى دوافعنا الدينية نستنهض بها هممنا، ونحث عقولنا على الخلق والابتكار، وما لم نسع من أجل إحياء مقوماتنا الروحية إحياء يحرك أذهاننا الخاملة، ويلهم نفوسنا، ويساعدنا على إظهار ما نملك من نبوغ قد يسوقنا إلى اكتساب مهارات ترفع من شأننا في خضم الحضارة الحديثة، لأن حيوية الجو الديني الذي يجب أن تعيش فيه عقولنا يدعها تحس بأنها تعيش في بيئة ترتاح إليها، وتشعر بأنها تسكن في بيت تألفه ويألفها، فتنساب وتنطق، لا يعوقها عائق، وتأخذ في الإبداع دون تعثر. ولكن إذا مات الجو الديني الذي يجب أن تتربى فيه عقولنا، وخرب البيت الذي تعودت أن تنشأ نفوسنا بين جنباته مات الباعث الذي يوحي إلى عقولنا بما تخلق، وخربت نفوسنا فتفقد انطلاقها وانسيابها، وتظل حبيسة الجمود والركود، فتشل المواهب وتعطل القدرات. وإذا ما طال أمد الركود، فقد يؤدي في النهاية إلى ضرب من الجدب العقلي، يشعرنا على الدوام بنقص يغرس فينا ميلا للأخذ من الغير. وبدل أن نعتمد على استعداداتنا ومهارتنا نركن إلى طلب عون ممن صقلت استعداداته، وبرعت مهارته، وبدلا من أم نستوحي مقوماتنا النفسية نتكالب على ثقافة من نظن أنهم بلغوا الكمال في كل ما تناولوه من علوم وفنون، وفي هذا انتحار فكري ما بعده انتحار، لأن الفكر المستضعف قد يتولاه الخمول، ويقعده الكسل عن أي إنتاج. وقد يعجزه الشعور بالنقص في آخر الأمر عن النهوض، ويربطه بعجلة ذلك الفكر الغريب عنه بتهافته النهم على ما يتساقط من موائده الشهية من فتات لا تغني ولا تشبع، لأنه ارتضي