هو يراها تافهة لا غناء فيها ولا نفع وراءها، وترها الوزارة من اللازم اللازب لحفظ النظام.
ولعل هذا الخلاف لم ينته بغير ترك المازني للمدرسة أو إغلاقها في أخريات ذلك العام، وانتقاله إلى ميدان غير ميدان التعليم.
لماذا هجر المازني التدريس؟
لعل ذلك كان زهدا فيه ورغبة عنه بعد عشر من السنين الولاء هي خلاصة العمر وصفوة الشباب. على أن المحقق انه رآه أبعد عن طبيعته وأدعى إلى تعطيل مواهبه، وأنه لا يلتقي بالأدب في ملتقى واحد، وكان يرى - كما يقول - أن الوقت الذي ينفقه في التعليم كان الأدب أولى به، أو هو مقتطع من حق الأدب، وأن التعليم لا يصله بالحياة الصلة اللازمة لفهمها. وكان يرى كذلك أن أدبه في تلك الفترة نظري بحت أو هو الأدب الذي يعتمد على الكتب ولا يستمد من الحياة إلا قليلا، فخرج في الأغلب دراسات قوامها القراءة دون التجربة.
وسبب آخر من أسباب ترك التعليم. فقد أخذت نذر الثورة المصرية (١٩١٩) تتجمع في الأفق، وتأججت في المصريين روح الوطنية وجمعت كلمتهم على القيام بها وتأريث شعلتها في وجه الاحتلال. وهي روح خبرها المازني عن كثب في هيئة مدرسته من مدرسين وتلاميذ، وممن كان يلقاهم في الطريق - بين البيت والمدرسة - من أبناء الشعب وخاصة في الأحياء الوطنية. فأعدته هذه الروح وتجاوب نداؤها الخفي بين جنبيه، وعرف أن قد آن له النزول إلى المعمعة وخوض الغمار، وأن الفرصة قد سنحت لتحقيق نيته القديمة على ترك التعليم، فأغلق المدرسة واتجه صوب الصحافة ليخدم الثورة بقلمه.
ولعله إلى جانب ذلك، قد دار بنفسه خاطر التأسي بالذين سبقوه من زملائه إلى التفرغ لرسالة الأدب مضحين في سبيلها وظائفهم الحكومية، وكانت على ذلك العهد غاية مطمح الشبان؛ وكان المذهب الجديد التمهيد له مما يحتاجون معه إلى توحيد الخطة وتجنيد الجهود. فلم يكد يحين الوقت للبدء في إعلانه والدعوة إلية، حتى شمر المازني عن ساعديه، وحمل - كما يقول - فأسه ومعوله ومجرفته ولحق بأصحابه.