يقويني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى في وجوههم أمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلد مثلي فأسر وأغتبط وأزداد نشاطا في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام، فقد كنت أعرف أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وضللنا على هذه الحال نصف ساعة كادة أرواحنا فيها تزهق ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادي المكتوم واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد. قلت افتحها. وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعا واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال ما لا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بي. وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وأن الأمر كان مقصود به غيري، وأنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكن تجاهلت وسألتهم عما يعنون. قالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. قلت: رائحة. . أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشم شيئا فلا محل لاعتذاركم. ومضيت عنهم)
ويروي الأستاذ العقاد عن تلاميذ المدرسة الإعدادية أنهم كانوا يسمون المازني فيما بينهم باسم (تيمورلنك)، ويقول الأستاذ الكبير إن السر البراعة في هذه التسمية، هي أنه كان يدرس التاريخ، وأنه كسميه صغير الجسم مصاب بإحدى قدميه، وأنه مسيطر على التلاميذ قلما يحتاج إلى معاقبة أحد منهم لخروجه على نظام الحصة، لأنه كان مهيبا بينهم قديرا على أخذهم بمهابتهم إياه قبل خوفهم من عقابه، فجمعوا كل ذلك في اسم تيمورلنك أحسن جمع مستطاع.
وفي عام ١٩١٨ تولى المازني أمر مدرسة ثانوية، فاستغنى في إدارتها عن كثير من الأوامر والنواهي، وعن دق (الجرس) في مواعيده، ورفض أن يستعمل في مدرسته (الدفاتر) الوزارية العديدة التي تستعملها المدارس، كذلك ألغى العقوبات بكافة أنواعها، فقد كان رأيه أن المدرس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لمهنة التدريس، وكانت المدرسة تحت إشراف وزارة المعارف، فحدث خلافا بينه وبينها بسبب هذه (الإداريات)؛