أدبيات اللغة العربية. فاستولت علينا دهشة وتملكنا العجب، فللترجمة كان الدرس لا للأدب! وقبل أن ينقضي عجبنا ونفيق من غاشية ذهولنا، أومأ الأستاذ إلى أحدنا، وطلب إليه في غير احتفال أن يفتح الكتاب على أية صفحة وأن يجهر بتلاوتها علينا. ثم توجه إلينا بالدعوة إلى مراجعتها والشروع على الفور في ترجمتها. ولا تسل عما دخل على نفوسنا من هذا الارتجال. إنها - على طول الفترة - أول مرة يجري فيها درس الترجمة على خلاف الخطة. وليت الأمر وقف عند هذا القدر. بل بلغت الجرأة بأستاذ الترجمة المحدث أنه لم يأخذ لدرسها أدنى أهبة، ثم كان من ذهابه إلى غاية المدى أنه لم يكن له شأن حتى في اختيار القطعة.
في هذه اللحظة، لو أن متسمعا تسمع لقلوبنا الصغيرة لألفاها جميعا تنبض بلحن واحد: يا للعظمة! يا للعظمة!
واسترقنا النظر إلى الأستاذ الشاب القصير النحيل، فإذا هو غيره قبل تلك اللحظة. إنه ملء عيوننا روعة، وملء صدورنا هيبة!
ولم يحدث خلال السنوات العشر التي أنفقها المازني في التدريس، أن احتاج إلى أن يعاقب تلميذا أو يوبخه أو يقول له كلمة نابية. وكان لقرب عهده بالتلمذة وسابق تجربته وخبرته بشقاوة التلاميذ، أعرف بما يقابل به الرغبة الطبيعية في هذه لشقاوة، ومما يدل على تلك المقدرة عنده هذه الحادثة التي يرويها.
(اتفق يوما أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفا والجو حار جدا، فضاعف الحر شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسي إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثى نفوسهم معي أيضا. فحالهم ليس خيرا من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصرا علي ولا أنا منفرد، وإنهم لأغبياء إذ أشركوا أنفسهم معي وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال. فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد الأخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. فصبرت وتشددت ودعوت الله في سري أن