ثم كان أن دعاه الشيخ عبد العزيز جاويش للعمل بمدرسته (الإعدادية الثانوية) واختار له مادة التاريخ. ومن زملائه في هذه المدرسة الأساتذة العقاد والزيات وأحمد زكي.
وقد كان المازني مدرسا ناجحا، وكان ما بينه وبين تلاميذه عامرا قائما على التوفير والتقدير، إذ كانوا شبانا وكان هو كذلك لا يكبرهم إلا قليلا. والتقارب في السن أدعى إلى التجاوب وحسن الأخذ والتلقي. وكان نمطا جديدا في الأساتذة لا عهد للتلاميذ بمثله. ولم يكن اعتماده في تحضير الدروس وإعدادها على الكتب المقررة أو الموضوعة، بل كان يعتمد على موهبته الشخصية ومحصوله الخاص. وكان الأثر الذي خلفه في نفوس تلاميذه قويا موحيا، فدلتهم طريقته الفريدة في ذلك الحين على حقيقة مدرسهم وأي أستاذ عظيم هو وفي الحادثة التالية التي يرويها الأستاذ عبد الرحمن صدقي - وهو من تلامذة المازني في المدرسة الخديوية لذلك العهد ما يقوم دليل على ما كان للأستاذ الشاب من مكانة في نفوس تلاميذه لم يكونوا يعرفونها لأساتذة الطراز القديم.
يقول الأستاذ صدقي: (في ذات يوم دخل علينا - على غير علم منا - في درس ترجمة أستاذ غير أستاذنا. ومما زاد في غرابة أمره أنه كان على نقيضه، فهو شاب من أهل جيلنا لا يكبرنا إلا قليل. وهو قصير القامة نحيل غير جسيم. ثم إنه لا تركب أنفه نظارة غليظة العوينات كصاحبنا. وهو لا يتهادى في مشيته إلى المنصة، بل قد مشى إليها مشية غير متكلفة، بخطى متزنة لا سريعة ولا متئدة. وهاهو ذا يستقبلنا بوجه مخروط ترين على وسامته صفرة نعرفها في أنفسنا قبيل الامتحان من معاناة الدراسة وطول السهر. وهاهو ذا يطالع جمعنا من غير تخصيص ولا تحديق، بناظرين نفاذين وقاذين، فيهما عمق وحزن من غير وحشة وانقباض.
وقامت في الصفوف المتأخرة كمألوف العادة هينمة ولغط، وهب تلاميذ الصف الأول للتحية واقفين، ونهض الذين من بعدهم بعضهم النهوض متئاقلين، وظل الآخرون قعودا متجاهلين ولكن الأستاذ لم يفارقه سكونه المترفع الحزين، وكان فوق منصته العالية كأنما يستوي في نظرته العابرة ونفسه الكبيرة الشاملة، أهل الطاعة وأهل المعصية، ثم أجمل التحية في غير استكراه ولا زلفى.
ودق الأستاذ الشاب في لطف على المنضدة. وبادرنا دون أن يرفع صوته: أخرجوا كتاب