ولم ينقذني إلا مفتش إنجليزي جاء على عادته ليشرف على سير الدراسة، فعلمت أنه مع الناظر في غرفته، وكانت مجاورة للغرفة التي أنا فيها، فأوصيت الخادم أو الفراش كما يسمونه - بأن يدعوه إلي، حين يخرج، وفتحت الباب على مصراعيه فلما دخل علي رحبت به واحتفيت بمقدمه وسرت به إلى مقعدي ومكتبي؛ وهناك سلمته كراسة التحضير وكراسة الأسماء، وإصبع الطباشير وممسحة السبورة، وقلت له: التلاميذ أمامك، ومعك كراساتي وأدواتي، فسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وخرجت، فجرى روائي وأدركني أمام غرفة الناظر وقال: إن هذا جنون. فعد إلى فرقتك. فقلت: جنون؟ وهل كنت تنتظر أن أظل عاقلا؟ لقد صارحتكم مائة مرة بأني حمار؛ فماذا تريدون؟ إن لي ذمة، وذمتي لا تقبل أن أضيع على التلاميذ المساكين سنة من أعمارهم. قال: ولكني أكدت لك أننا لا نجد مدرسا للرياضة فيحل محلك. فأنتظر حتى نجد واحدا ثم نعيدك إلى الترجمة. فقلت: كلا! تتولى أنت التدريس حتى تجدوا المدرس، وأنا مستعد أن أقوم عنك بمهمة التفتيش. فضحك، وضحك الناظر وكان قد خرج على صوتنا، ولا أطيل: أقنعاني بالعودة إلى فرقتي على ألا يطول عذابي إلا أياما معدودات، وقد كان).
واتفق عام ١٩١٥ أن أصدر المازني كتابا في نقد (شعر حافظ) وكان يمثل في رأيه المذهب القديم. وهو مجموعة مقالات كتبها قبل ذلك بعامين ونشر بعضها في مجلة (عكاظ) ثم جمع متفرقها وطبعها. وظهر الكتاب وكان له دويه. فلم يكن أحد في ذلك الحين ليجرؤ على نقد حافظ وهو آمن، فساءه النقد، واضطهد المازني - وهو مدرس - وأوصى به الرؤساء شرا. وغضب المازني لكرامته فاستقال.
ويحدثنا المازني أنه راجع نفسه وندم يومه على الاستقالة، وساورته المخاوف وأدركه الجزع من أن تضيق الدنيا به، وكانت الحرب على أشدها والغلاء ضارب إطنابه. وأرق ليلته، فوجد أمه بجانبه لتقول له (لا عليك يا بني. لقد تعلمت كل ما يمكن أن تتعلمه هنا. فما خير ذلك إذا عجزت عن الانتفاع به في الحياة؟ ولماذا لا تستطيع أن تعمل إلا في الحكومة؟ لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعدا أن تعمل حتى بيدك إذا احتاج الأمر؛ وثق أنك لن تخيب فإني داعية لك راضية عنك. قم فنم وتوكل على الله!)