وقد كان المازني كما ذكرنا مدرس ترجمة. فحدث عند نقله إلى المدرسة الخديوية أن اختارت الوزارة لتدريسه مادة الحساب. وبين المازني والحساب، والرياضيات عامة، عداء قديم ونفور طبيعي لا يخفيه، أو كما يقول هو (لا أكتم القارئ أني أخيب خلق الله في الحساب). . فلا بد إذا من تفادي هذه الورطة! ولكن كيف السبيل؟
يقول المزني وهو يروي هذه القصة في كتابه الساخر (رحلة الحجاز):
(. . اعترضت واحتججت، فما أجدى عني اعتراضي شيئا، فقصدت إلى ناظر المدرسة - وكان إنجليزيا - وقلت له: إن وزارة معارفنا تعتقد أن كل امرئ يصلح لكل شيء؛ ولكني أعرف من نفسي أني لا أصلح لتعليم الرياضة عامة والحساب خاصة، وأصارحك أني لا أصدق أن واحدا في واحد يساوي واحدا، هذا، كما يقول شاعر عربي، كلام له خبئ معناه لبست لنا عقول. وقد تكون أولا تكون لنا عقول؛ هذه مسألة خلافية ندعها الآن، ولكن المحقق عندي أن العلوم الرياضية وفي جملتها هذا الحساب لا تدخل في دائرة عقلي، فهل لك في عوني على ما أريده؟ فضحك وقال: وما تبغي؟
قلت: تعفيني من التدريس للفرق العليا؛ وتقنع بأن تكل إلى تلاميذ الفرقة الأولى، أعني الحاصلين على الشهادة الابتدائية في هذا العام ليتسنى لي أن أحفظ الدرس أولا فأولا، ثم ألقيه عليهم، فنتعلم معا، وفي خلال ذلك تبذل وساطتك لتردني مدرس ترجمة كما كنت.
فسرته صراحتي ووعدني خيرا. وشرعت في العمل، وكنت احفظ الدرس جيدا وأراجع زملائي ثم أدخل على التلاميذ وألقنهم ما حفظت، وقد وفقني الله في الهندسة والجبر، أما الحساب فأعوذ بالله منه!! كنت أخطئ في كل مسألة أطرحها على التلاميذ، ولم أكن أكتمهم أني أجهل منهم وأن الذنب للوزارة وليس لي، وأن الوزارة هي المسئولة عن خلطي وتخبطي، وأنصف التلاميذ فأقول إنهم قبلوا عذري واغتفروا لي ضعفي وجفوني بعطفهم ولم يبخلوا علي بإيضاح ما يشكل علي وبهدايتي إلى الصواب حين أضل، وكنا أحيانا - إذا استعصى عليهم إفهامي طريقة الحل - تقضي بضع دقائق في ندب سوء حظي وحظهم، وربما قال الواحد منهم وقد فاضت نفسه بالعطف علي والمرثية لي: كيف ترتكب الوزارة مثل هذا الخطأ الشنيع فتعهد إلي تدريس العلم إلى جاهل به؟