للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تحاول فيه الإنسانية أن تتخلص من سلطة الزعماء وتقيم الديمقراطية مكان الديكتاتورية كلما اتسع المجال وأتيحت الفرص

لم يكن كارليل مبتدعاً في الرأي حين رفع البطولة إلى هذا المقام وقدسها هذا التقديس، فقد سبقه إلى ذلك هيجل الفيلسوف الألماني إذ كان يقول: إن وراء كل أمة أو عصر أو مدنية (فكرة) تسيرها. هذه الفكرة هي السمة الكبرى لذلك العصر أو تلك المدنية، منها تتفرع وإليها تنتهي جميع مناحي التفكير من فلسفة أو دين أو فن أو أخلاق. هذه (الفكرة) عند هيجل هي (روح البطولة) عند كارليل. ومن ثم نرى أن كارليل كان أشد وضوحاً وأدق تعبيراً من صاحبه الألماني، وقد أراد أن يزيد وضوحاً ويتخلص من غموض (الفكرة) تماماً، فجسد (روح البطولة) في شخص (البطل) فانتقل بذلك من المعقول إلى المحسوس، ومن الفكرة المجردة إلى الحقيقة الملموسة

ومع ذلك فإن كارليل لم يتخلص من تجريد الفكرة تماماً فإن هذا (البطل)، هذا (الكائن الحي) الذي تتجسد فيه الفكرة هو في ذاته معنى مجرد تتجمع فيه فروع الحياة الشتيتة. البطل في نظر كارليل يمثل المدنية التي يعيش فيها، ورأي البطل نبراس يهتدي به بنو عصره. فلو أردنا معرفة تاريخ عصر من العصور بحثنا عن زعيمه وقائده. ولا يريدنا كارليل في دراسة هذا الزعيم أن ندرس تاريخ حياته ومجراها وإنما واجبنا أن نحلل آراءه ومعتقداته حتى نستطيع أن نفهم مدنية العصر الذي نشأ فيه بمظاهرها المختلفة، لأن المدنية - كما كان يرى - كل لا يتجزأ لها مرمى واحد ومعنى واحد.

وروح البطولة هي رائد التاريخ ومنشأ المدنيات، ومجددة الحياة الإنسانية، وما دامت كذلك منبع كل حركة فلا ينبغي أن نفهم التاريخ إلا عن طريقها وبواسطتها. ليضع علماء الاجتماع ما شاءوا من القواعد والقوانين، وليضع رجال السياسة ما شاءوا من نظم ودساتير، وليفرض علينا المؤرخون ما شاءوا من أسباب تسير هذا العالم، فليس الإنسان بكائن جامد تكيفه قاعدة، ويعبر عنه بقانون، وإنما هو روح حي يفكر ويشعر ويتأثر، يخضع لأفذاذ الرجال كلما ظهروا برغم كل قانون

وأحسن مثال يتمثل فيه بكل جلاء، نظر كارليل للتاريخ كتابه عن (كرومويل). أراد كارليل أن يؤرخ البيورتيانية، فكتب عن كرومويل زعيمها الأكبر، وحامل لوائها تاريخاً مفصلاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>