للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حين تقرأه تسمع كلمات الرجل ونبرات صوته وتتخيل صورته ورسمه. يعرض عليك المؤلف صورة واضحة يضعها أمام ناظريك لتبلغ من قرارة نفسك بقدر ما فيها من قوة وتأثير، ولا يفرض عليك رأيناً بعينه ولا فكرة بذاتها، يعرض عليك الحقيقة مجردة من غير تعليق، فلا ترى المؤلف ولا أثراً من نفسه، كان البيورتان يتطلعون إلى إنشاء حكومة على دينهم ومبادئهم فوجدوا في كرومويل الرجل الذي تتجسد فيه ميولهم وأهواءهم، فوضعوه على رأس حكومتهم ورضوا به حاكماً مستبداً، ذلك لأن كرومويل بطل تتمثل فيه آراء جيل كامل وأمة بأسرها

كان كارليل يرى في كرومويل مثلاً للبطولة الحق، وينظر إلى الثورة الإنجليزية التي قام بها نظرة الإعجاب، لأنها كانت تقوم على أساس ديني متين، ولكنا نجده في كتابه عن (الثورة الفرنسية) لا ينظر بعين الرضا إلى هذه الثورة لأنها لم تخضع لزعيم واحد يمثلها ويسير بها إلى الأمام، كما أن فلسفتها كانت في صميمها غير دينية، اندفع فيها الفرنسيون وراء غرائزهم الوحشية وعملوا على إشباع شهواتهم البهيمية وإحلال الفوضى محل النظام

وظاهر أن كارليل لم يكن عادلاً في حكمه هذا. نعم كان في الثورة الفرنسية الكثير من الوحشية والهمجية، ولكنا لا نستطيع أن ننكر أن فيها خيراً كثيراً، وإنها وإن تكن ثورة غير دينية إلا أن الفلسفة التي كيفتها تنطوي على كثير من المبادئ القديمة، وإذا كانت الثورة الإنجليزية قد خدمت إنجلترا فإن الثورة الفرنسية قد خدمت العالم أجمع، وما تزال تخدمه إلى يومنا هذا

وكما انقلب كارليل على الثورة الفرنسية لخروجها عن الدين، فهو كذلك ثائر على إنجلترا الحديثة لإهمالها هذا الجانب الهام في حياتها العامة، ثائر على هذه الديمقراطية الواسعة التي تفسح المجال لكل من هب ودب ليكون ذا رأي محترم وقول مسموع، وليس من سبيل إلى خلاص البلاد إلا بعد أن تسلم زمام أمورها لزعمائها غير منازعين

وهنا نقف عند هذا الحد من بسط آراء كارليل في البطولة وأثرها في التاريخ ونسائل أنفسنا: هل كان كارليل مصيباً حينما رفع أفذاذ الرجال إلى هذا الحد من القوة وهذه المكانة من التقديس؟

إن من يتصفح تاريخ الحياة وتقدمها يرى أن الإنسانية في كل عصورها تنقسم إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>