للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شطرين: رعية كبيرة وطائفة قليلة من الرعاة، تدق هذه الرعية أمامها، هؤلاء الرعاة هم أدوات التقدم الإنساني وهم عظماء الرجال الذين يمثلون الآداب والآراء التي هي على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها بمثابة ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية، أي أنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر من أن تكون أثراً من آثار الفرد الذي رآها ونشرها بين الناس. وإذا كان الأمر كذلك فليس من الحق في شيء أن ننسى الجماعة التي هي المؤثر الأول في ظهور الآداب والآراء والفلسفة، ونقصر عنايتنا على الفرد الذي كان مظهراً لهذه الآداب وتلك الآراء فنمحو الجماعة محواً ونهملهاً إهمالاً، إذ الفرد لم ينشئ نفسه وإنما الجماعة كلها متعاونة متظافرة على تنشيئه وتربية عقله وجسمه وشعوره، فهو صورة منها وظاهرة من ظواهرها. الفرد مدين بلغته ودينه وخلقه إلى الجماعة، إذن فليس من البحث العلمي القيم في شيء أن نقدس الأفراد كل هذا التقديس ونحتقر الجماعة كل هذا الاحتقار. وأنا لو صورنا لأنفسنا طائفة من أواسط الناس متوسطي الذكاء ليس لهم مواهب خاصة ولا عقلية ممتازة فد رحلوا إلى جزيرة جرداء ليس فيها من أثر من آثار المدنية ولا عمل من أعمال الإنسان أدركنا بسهولة كيف يظهر بينهم المخترع والفيلسوف والسياسي والقائد، ولا يلبثون أن يعيدوا في خلال جيل أو جيلين تاريخ التقدم الإنساني كله، ويصبح هؤلاء الأوساط صورة مصغرة من نيوتن ووطسن وكرومويل ونابليون وغيرهم، لأنهم في حياتهم الأولى كانت تعوزهم الفرصة التي أتاحتها لهم الجزيرة الجرداء، فظهرت عبقرياتهم بعد كان مقضياً عليها بالموت والفناء

ويتبين لنا من هذا أن الإنسانية لا تتقدم بظهور الرجال، وإنما يظهر الرجال لأنها تريد أن تتقدم، وفي علم الحياة نظرية ثابتة تقول أن الوظيفة تخلق العضو ولا يخلق العضو الوظيفة، فالإنسان لا يمشي لأن له قدمين، وإنما له قدمان لأنه أراد أن يمشي، ولا ينظر لأن له عينين، ولكنه ذو عينين لأنه أراد أن ينظر

ومن يتدبر التاريخ ير أن الإنسانية تعتريها فترات من الجمود تعقبها النهضات التي تظهر فيها الشخصيات البارزة، ولا تعلل هذه الظاهرة إلا بأن الظروف الاجتماعية والزمنية في فترات الجمود تخالف مثيلاتها في فترات النهضات، فالأولى لا تدعو إلى ظهور الرجال بينما الثانية تتطلب الرجال العاملين وتخلقهم خلقاً فإذا صح لنا أن نقول أن النهضة أوجدت

<<  <  ج:
ص:  >  >>