كانت كلمات القائد البطل عن فلسطين تمس نفسي - وهو يلقيها - مسة الكهرباء فتحرق ولا تضيء، لأنني - يشهد الله - كنت وما زلت من أشد الناس اهتماماً بالحادثة، ثم من أشدهم التياعا بالكارثة؛ فإذا فاتني - لشقوتي - أن أشارك في وقائعها بجسمي، فلم يفتني أن أشارك فيها بقلمي فكتبتمقالات نارية المعنى قاسية الألفاظ تكاد ترسل شواظاً من نار ونحاسا على المتسببين في تلك الهزيمة المنكرة، بغير أسبابها المعقولة عند الناس، ولكن بسبب لا يستسيغه عقل عاقل وهو قبول الهدنة. . . لذلك كانت كلمات القائد تفيض من نفسه الجريحة وكأنما تفور من نفسي. حتى إذا سكت عن ساسة العرب أحسست بانفعال كنت أتمنى أن أسكنه بشهادة حق من القائد الصادق عليهم تؤيد عقيدتي فيهم؛ فإن شهادة الحق تؤيد الحق حتى لكأنه حقان.
وتكلم القائد البطل عن أولئك البائسين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: وطننا فلسطين، والذين نسميهم مشردين ونحن شردناهم بما كسبت أيدينا، ووصف وصف المعايشين ما يلقون من شقاء وما يتجرعونه من غصص؛ وبدأ صوته يرتفع ويتهدج وعيناه تغرورقان بالدموع فتشهد بأنه يغالب أسى كميناً وهما دفينا. وكانت الجمل العبقرية التي تساوي الدم الذي سال من جسمه على ثرى فلسطين هي قوله:(كيف نلتذ بالطعام، وننعم باللباس والدفء، وإن إخواننا ليتضورون من الجوع، ويفترشون الغبراء؟ لماذا لا نصوم يوماً من الأسبوع عن اللحم. أو أسبوعاً من الشهر عن هنة من هذه الكماليات. ثم نرصد ثمنها لإطعام إخواننا الفلسطينيين وكسوتهم؟ إن الإمساك عن اللحم يوماً من الأسبوع أو عن الكماليات أسبوعاً من الشهر لا تميتنا وكنها تحيي إخواننا). ثم رمى السامعين بالآبدة التي ظننت أن الجباه تندي لها عرقاً، إن لم تنخلع القلوب منها فرقاً، وهي قوله (إن من العار أن نطلب لهم الحياة ممن أماتهم، ونسألهم القوت من الدول العاتية التي حكمت عليهم بالموت جوعاً، وحكمت علينا بالانحناء ذلاً ومهانة).
حقائق جلاها القائد على مئات من السامعين، وما منهم إلا من له نباهة وذكر ومقام. جلاهافي جمل حاكية، تحتها معان باكية؛ وشرحها الوافي ينتزع مما يتصوره المتصورون. ويصوره المصورون من حال أولئك البائسين. وينتزع من تخاذل العرب ملوكاً وحكومات