الصبح بساعات إلى أبواب ذلك الحصن المغلق؟ وهل كانوا على علم بصير بالمنهج وبالقيادة وبالنتائج قبل أن ينكشف شئ من ذلك للعيان؟
هذا افتراض تأباه طبائع الأشياء؛ فلم يكن لأولئك الملايين العشرين شأن في التدبير، ولا مشاركة في رسم الخطة، ولا صحبة على ذلك الطريق المظلم، ولا علم بصير أو علم مستنبط بالنهج والقيادة والنتيجة؛ ولكنهم مع ذلك كانوا مؤمنين بأنهم هم الثائرون، الساعون إلى حصن الظلم والظلام لتحطيمه ودك بنيانه. وكان الهتاف والفرح فرحهم؛ لأن الفوز كان منسوباً إليهم جميعاً لا إلى بضعة نفر منهم؛ فهل يكون ذلك إلا دليلاً على أن هذه الثورة التي بدت طلائعها للعيان في ذلك الصباح، ولم يكن ذلك الصباح أول ميلادها، لأنها كانت مولوداً نامياً من قبل ذلك التاريخ بأمد بعيد!. . .
وإذن فمتى كان ميلادها الحقيقي؟. . .
هذا هو السؤال في صورة ثالثة. . .
إنها ثورة، وهي ثورة عارمة انبثقت من إحساس الملايين، وهي بعيدة الميلاد الحقيقي عن اليوم الثالث بعد العشرين من شهر يولية؛ كالبذرة الحية في الأرض الخصبة تغطيها طبقات من التراب، ويتعاورهاالحر والبرد، ويتعاقب عليها الجفاف والمطر، وتتقلب عليها رياح الشمال ورياح الجنوب؛ ولكنها لا تنبت إلا حين يحين موعد نباتها؛ فليس أول تاريخها هو اليوم الذي نجمت فيه على سطح التربة، لأنها ذات تاريخ قديم تحت التراب؛ وإنما أول تاريخها يوم حفر لها غارسها في الأرض ثم قال لها انتظري حتى يحين موعد نباتك؛ فمن الذي أودع بذرة تلك الثورة هذه الأرض الخصبة وقال لها انتظري يوماً مثل يوم ٢٣ يولية؟
هذا هو السؤال في صورة رابعة، وهو هو السؤال الذي جعلته عنواناً لهذا المقال!. . .
إنما أودع تلك البذرة هذه الأرض، أحرار الفكر وأصحاب البيان وذوو الأقلام والألسنة، منذ كان في مصر خطيب وقاص وشاعر وكاتب وذو بيان. . .
أولئك الأدباء الأحرار الموجهون، هم صانعو تلك الثورة؛ لأنهم هم، ولا أحد غيرهم، الذين أودعوا الأرض تلك البذرة التي استكنت إلى موعدها؛ فلما حان موسم النبات انطلق أولئك النفر الأخيار على صهواتهم، أو على دباباتهم، ليقتحموا ذلك الحصن المنيع من حصون