وكانت الجزيرة العربية لذلك العهد ممزقة الأوصال، متعددة الولايات والولاة؛ لا تهدأ بينهم نار الحرب، ولا تخبوا الإحن والثارات. وكذلك كان الشأن بين البدو والحضر، وبين القبائل بعضها وبعض، بل وبين أبناء البيت الواحد ممن يتنافسون على المناصب والمغانم. حتى أن أحد أشراف مكة لم يتورع عن قتل أخيه ثم طبخ لحمة وقدمه إلى بقية أخوته في وليمة ساهرة!
وكانت الخرافات والعقائد الضالة قد استحوذت على العقول، حتى لأوشكوا أن يرتكسوا في جاهلية عمياء، وهي شر من الجاهلية الأولى؛ لأن أهلها يزعمون مع ذلك انهم مسلمون. .
وبدأت دعوة محمد بن عبد الوهاب بالعمل على إصلاح العقيدة الدينية. وهل إلى ذلك من سبيل غير الرجوع إلى منابعها الصافية: الكتاب والسنة!
ومن خصائص العرب في جميع العصور، أن طبيعتهم السمحة القوية، وبيئتهم البادية المتصلة بالكون، المتفاعلة فيه، هي أقرب الطبائع البشرية إلى روح الإسلام وطبيعته. وليست كذلك طبيعة الأمم التي أغرقتها الحضارة، واستغرقتها العقائد المادية، وأنهكها الترف العقلي، وخدرتها أوهام التصوف وتهاويل الفنون. .
ولذلك استطاع الإسلام أن يحقق بأولئك العرب، بعد أن زالت عن طبيعتهم السمحة القوية أدران الجاهلية، وتطهر جوهرها النقي مما شابه من عقائد وأفكار - استطاع أن يحقق بهم أروع وأسرع معجزة في فتح الأمصار ونشر كلمة الله.
فلما اتصلت حياتهم بتلك الأمصار، وتذوقوا ما فيها من ألوان الحياة الحضارية، وبهرتهم دنياهم الجديدة بما فيها من زينة وزخرف ومتاع، تأثروا بذلك كله، فضعفت قواهم المبدعة الغلابة، ولم يستطيعوا أن يتابعوا جهادهم بعد الفتح في تطوير عقائد تلك الأمصار، وانبعاث صور جديدة للحياة في شتى مناحيها العقلية والاجتماعية، يتصل إلهامها بروح الإسلام وطبيعته، فكان أن ذرت العقائد الموروثة التي حاربها الإسلام بقرونها من جديد، في صور موشاة بألوان تخيل للرائي أنها صورة إسلامية، وإن كانت في مادتها ووحيها بعيدة كل البعد أو بعضه عن مادة الإسلام ووحيه. .
وأنظر معي الآن - ولا تجزع - إلى ذلك الميراث الضخم الذي خلفته العصور الإسلامية منذ أنحسر عنها مد العروبة المسلمة أو غاض، وانطلقت غرائزها تبني للإسلام حضارته