العمرانية والعقلية، في مصر وفارس والهند وتركيا وغيرها من الأمصار، فتنشئ العمارة، وتمارس العلم والفلسفة، وتصوغ فنون الحياة. . أترى معي حقيقة - إذا تجردنا من أوهام ذلك التاريخ الذي نعيش فيه، وتحررنا مما رسب في أعماقنا من معايير وموازيين - أن هذه الحضارة الإسلامية في ماضيها وحاضرها، وذلك الميراث الضخم الذي تزهو به وتلك الحياة التي أبدعت هذه الحضارة وذلك الميراث، والتي نحياها الآن على نمط قريب مما كان يحياها أولئك الآباء والأجداد؛ أتراها معي حقيقة، حضارة إسلامية بكل ما في هذه الكلمة من معنى؛ أم أنها حضارات متعددة تمتد جذورها إلى أعماق الأمم التي صنعتها، في مصر، وفارس، والهند، وتركيا، وغيرها من الأمصار؟
قد تتهمني بالمغالاة والتجني على مقومات الحضارة الإسلامية. وقد تقول: إن هذا التعدد في ألوان الحضارة الإسلامية لا يتصل إلا بمظاهرها، وبالقدر الذي تختلف به طبيعة كل أمة ومؤثراتها الخاصة، وإنها في جوهرها ومجموعها تنبع من معين واحد هو معين الإسلام. . .
وفي هذا الاعتراض نوع من المغالطة؛ فإن هذه الألوان المتعددة في معالم الحضارة الإسلامية، لا يقتصر تعددها واختلافها على المظهر فحسب، ولا يرجع ذلك التعدد والاختلاف إلى تأثير البيئة واختلاف الطبيعة - وأذن لهان الأمر؛ ولكنه أعمق من ذلك جذور أو أبعد أساً؛ ذلك لأن هذا الاختلاف في المظاهر لا يقاس إلى ما بين العقائد والأفكار والمشاعر التي تكمن وراءها من تباعد واختلاف. . وبالقدر الذي يباعد بين هذه العقائد والأفكار والمشاعر الموروثة، وبين الإسلام في حقيقته الأولى وتمثله للكون والحياة.
وفي هذا الاعتراض كذلك شبهة لا يمكن إزالتها إلا بالاحتكام إلى الإسلام ذاته؛ لا عن توهم أنه دين تأبى طبيعته التطور، وينكر حق العقل في بحث أسرار الكون وإخضاع نواميس الطبيعة، ولكن عن إدراك طبيعة الإسلام باعتباره دينا يقوم على (التوحيد) في كل شئ: التوحيد الذي يسمو بالإنسان عن توحيد عبودية إلا لله، ويجعل المسلم قواما على الحياة والكون، يسيطر عليهما ويسخرهما لتحقيق الرسالة التي جاء بها الإسلام لخير الفرد والمجتمع؛ لا أن يكون عبداً للكون والحياة، تستخدم مواهبه في الفنون حتى يكاد يعبد ما خلق، وتستغرق عقله بالفلسفة حتى تصرفه عن العمل. . .