للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واطلاعه، وذلك الاطلاع الذي أنكب عليه كوسيلة لعزاء في البداية، قبل أن يكون وسيلة للتثقيف.

وظل بلزاك طول حياته الدراسية محروماً من العطف العائلي حتى بلغ العشرين وحصل على إجازة الحقوق، ولكنه بدلا من أن يسير في الطريق الذي أهلته له دراسته وكما تبغي أسرته، استيقظت فيه فجأة الرغبة في مزاولة حرفة الأدب، واستطاع أن يقنع أسرته بعد كفاح مستميت أن تمده بمبلغ من المال للذهاب إلى باريس ليجرب حظه مدة معينه لا تزيد على سنتين إذا فشل بعدها عاد إلى موطن الأسرة ليزاول الحياة التي أهلتها له دراسته القانونية.

ورحل بلزاك إلى باريس؛ وأقام في رقم ٩ شارع ليدبجويير في غرفة في سطح المنزل، غرفة صغيرة تعابها النفس، اختارتها له والدته بنفسها خصيصا لتبغض إليه الحياة التي يطمع فيها. بيد أن بلزاك أحتمل حياته الجديدة بعزم وعناد. فكان ينظف الغرفة بنفسه ويذهب لشراء الطعام الرخيص كل يوم حتى يوفر ما تكلفه إياه المطاعم. حتى الماء كان يذهب لإحضاره من نافورة سان ميشيل كي لا يتكلف ثمن شرائه. ولم يكن كل ذلك ليثبط من عزيمته، وكان يتعزى عن شقائه بالتطلع من نافذة غرفته الصغيرة إلى أضواء باريس، متأملا سحرها، حالماً بذلك المجد الأدبي الذي يصبو إليه ليكون أسمه علماً بين كتاب تلك المدينة التي أضاءت سماءها أسماء أعاظم رجال الأدب والفكر في مختلف العصور.

فإذا ما أراد بلزاك أن يخرج من سجن غرفته ذهب إلى الأحياء الشعبية يتأمل ساكنيها ويدرس نواحي الحياة بين أرجائها. وكان لا يجد غضاضة أو غرابة أثناء تجواله إذ كانت ملابسه كما يقول، لا تلفت إليه الأنظار لأنها لا تفترق في بساطتها عن ملابس العمال والبسطاء من ساكني تلك الأحياء، فوق أن مشاعره كانت تتجاوب مع مشاعرهم، فيرثى لضروب تعاستهم، متضامنا وإياهم في سخطهم على رؤسائهم الذين يستبدون بهم ويرهقونهم في مقابل لقمة العيش. ولقد كانت هذه الفترة من حياة بلزاك حاسمة في تحديد تفكيره وإدراكه لنفسية الطبقات الكادحة وما يختزن فيها من مواهب إذا اكتشفت وأحسن توجيهها أخرجت للنور الكتاب والمخترعين والفنانين وسائر القادة في مختلف ضروب الفكر الإنساني.

<<  <  ج:
ص:  >  >>