إذا ما غضبنا غصبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دماً
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما
تقول:
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال بشار: لكل وجه، وموضع الأول جد، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك فهي تجمع لي البيض، فهذا عندها أحسن من (قفا نبك. . .) عندك
وصدق بشار فيما قال، فإن البليغ هو من يحوك الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدود المعاني، وقد تكون هناك مواقف للقول يطلب فيها الأسفاف، ويحلو فيها التبذل، فيكون بأقل في عيه وفهاهته، أفصح من سحبان في تشدقه ورغائه، ويقيني لو أن بشاراً توجه في الخطاب إلى جاريته بلغته في الفخر والحماسة، لدل على الحماقة في طبعه، والسقم في ذوقه، وربما ظنت هذه الجارية أنه يشتمها، فكانت تمنعه بيض دجاجها، وتحتم عليه أن يشتري البيض من السوق، فلا يفيده تقعره، ولا ينفعه شعره، فمن القصور أن يلتزم الشاعر أو الكاتب نمطاً واحداً في التعبير لا يتعداه، فيكون في جده كهزله، ومن الهذيان أن يتعنت في توجيه الخطاب، فيكون في كلامه إلى أهل الثقافة والمعرفة كما هو في كلامه إلى ذوي الفهاهة والعي، وإنما الطبع القوي هو الذي يواتي صاحبه في كل طريق يسلكه، والذوق السليم هو الذي يقضي عليه بتوجيه الخطاب إلى مقتضى الحال، حتى يستطيع من وراء ذلك أن ينال غرضه عند المخاطب، وأن يصل إلى قرارة نفسه في يسر وسهولة، فلو انتهج الأدباء هذه الخطة التي أوضحها ابن شهيد، ولو علموا أن لكل ضرب من الناس ضرباً من الكلام، ووجهاً من البيان، لأمكنهم أن يغزوا نفوس الناس على اختلاف طبقاتهم بأفكارهم وأساليبهم، وأن يخلقوا الإحساس الفني في نفوس الجمهور على مر الزمن