للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تصدوا للرد عليه!!

وثمت مظهر آخر من مظاهر القوة والبراعة عند الأديب في رأي ابن شهيد، وهذا المظهر هو التفنن في توجيه الخطاب بحيث يكون على وفق أقدار المخاطبين، والتصرف في إيراد القول بحيث يكون من السهولة أو القوة على حسب ما يقتضيه المقام، وقد ذكر ابن شهيد هذه المسألة وهو يشرح ما كان يقع له مع الشاحذين في قرطبة، وكيف كان يعينهم بشعره على نيل مآربهم، فقال: (وربما لاذ بنا المستطعم باسم الشعر، ممن يخبط العامة والخاصة بسؤاله، فيصادف منا حالاً لا تتسع له في كبيرة مبرة، فنشاركه ونعتذر له، وربما أفدناه بأبيات يتعمد بها البقالين ومشايخ القصابين، فإذا قارفت أسماعهم، ومازجت أفهامهم، در حلبهم، وانحلت عقدهم، وجل شخص ذلك البائس في عيونهم، فما شئت إذ ذاك من خبزة وثيرة يحشى بها كمه، ورقبة سمينة تدس في مخلاته، وتينة رطبة يسد بها حلقومه. . فلا يكاد البائس يستتم ذلك حتى يأتينا فيكب على أيدينا يقبلها، وأطرافنا يمسحها، راغباً في أن نكشف له السر الذي حرك العامة فبذلت ما عندها له، وبادرت برفدها إليه. وتعليمه ذلك النحو من الشحذ لا نستطيعه، لأن هذا الذي يريد من هو تعليمه البيان، وبين فكره وبينه حجاب!! ولكل ضرب من الناس ضرب من الكلام ووجه من البيان. .)

وقد سبق أبو هلال العسكري ابن شهيد إلى تقرير هذه الحقيقة بعبارة أصرح وأوضح فقال في كتابه الصناعتين: (وينبغي أن تعرف أقدار المعاني فتوازن بينها وبين أقدار الحالات فتجعل لكل طبقة كلاماً، ولكل حال مقاماً، حتى تقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات، واعلم أن المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال. . . فإن كنت متكلماً أو احتجت إلى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب، أو قصيدة لبعض ما يراد له القصيد، فتخط ألفاظ المتكلمين، مثل الجسم والعرض واللون والتأليف، والجوهر، فإن ذلك هجنة. وكذلك كن أيضاً إذاكنت كاتباً)

ولعل بشار بن برد كان أول من دل على هذه الظاهر واستعملها في شعر من حيث كان الناس يعيبونها بها، فقد جاء في الأغاني بسنده أن بعضهم قال: قلت لبشار إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت! قال وما ذاك؟ قلت بينا تقول شعراً يثير النقع وتخلع به القلوب مثل قولك

<<  <  ج:
ص:  >  >>