أطوار حياته، فإذا قدم لها شيء من ذلك في مختلف شؤون الحياة أقبلت عليه، وانساقت معه، إلا أن يعصمها من ذلك حسن التنشئة والترويض. ولا ريب أن الرياضة الأدبية والعمل على السمو بالأذواق والتوجيه التهذيبي العام، خليق أن يجعل من الشعب عنصراً صالحاً يستعصم على الابتذال في الأدب، فيعرف ما يقدم إليه مما ينطوي على شذوذ وانحراف أو تهافت وإسفاف.
والقول الذي يجب أن يكون مردوداً على صاحبه، هو القول بأن الشعب لا يستطيع استساغة لون من الأدب، إلا هذا اللون التامة الوضيع، فالطعام الجيد الصنع الكريم العنصر: من يألفه؟ ومن لا يألفه؟.
لقد آن لنا أن نصحح الوضع في معنى الأدب الشعبي، فما ذلك الأدب الشعبي في الحق إلا الأدب الفني الرفيع الذي يستلهمه الفنان من روح الشعب ومن مختلف بيئاته، فيعبر به عن مشاعر هذه الأمواج المتدافعة من الناس في ملتطم الحياة، وإن هذا الأدب الشعبي ليمثل الجانب الأكبر من الأدب الحي الخالد في كل أمة من الأمم، وفي كل عصر من عصور البشر.
تلك هي روائع الأدب العالمي الباقية على الزمن، ليست أصولها إلا أساطير الشعب وأقاصيصه، فالإلياذة والإنيادة والمهابهاراتا والشاهنامة وألف ليلة وليلة، إنما هي كتب شعبية تعبر عن نفسية الشعب في مجموعة، وتسجيل أصداء صوته، وتصور ما ظهر وما بطن من نزعاته ونزواته. وما خلدت هذه الأعمال إلا بإزاريها وبين الناس وشائج موصولة على الوشائج الإنسانية الخالدة.
وما نجح (شكسبير) و (جونه) و (دانتي) و (موليير) و (ناجور) و (تشيوف) وإضرابهم من أفذاذ الأدب في الأمم إلا بأنهم يخاطبون الشعب كله، ويجلون ما يعتلج في قلبه، في أداء صادق واستلهام أمين، فهم فنانون عظماء بأنهم استطاعوا أن يتملكوا ناصية الجمهور الزاخر، وأن يندسوا إلى أعماق نفسه، فيكون بينهم وبينه تجاوب عميق.
وإليك (القرآن) العظيم مثلا رفيعاً للعمل الفني، ففيه تصوير رائع لهذه البشرية في متباين عواطفها ومختلف منازعها، فيه نجد كل نفس مناها، وقد هبطت آياته على الشعب بلغة الشعب، وعمت رسالته الناس كافة، فكان له وقع السحر، وظل على الدهر رمزاً خالداً