(كان) في كتاب الجامع (الوسيلة الأدبية)(لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية - غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلا إلى قراءة الشعر وعمله فكان يستمع بعض من له دراية وهو يقرأ بعض الدواوين أو يقرأ بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية ومواقع المرفوعات منها والمنصوبات والمخفوضات حسب ما تقتضيه المعاني والتعلقات المختلفة فصار يقرأ ولا يكاد بلحن. وسمعته مرة يسكن ياء المنقوص والفعل المعتل بها المنصوبين، فقلت له في ذلك، فقال: هو كذا في قول فلان، وأنشد شعراً لبعض العرب. فقلت تلك ضرورة، وقال علماء العربية إنها غير شاذة. ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها ناقداً شريفاً من خسيسها، واقفا على صوابها وخطئها مدركاً ما كان ينبغي وفق مقام الكلام ومالا ينبغي، ثم جاء من صنعة الشعر اللائق بالأمراء، ولشعر الأمراء كابي فراس والشريف الرضي والطغراثي تميز عن شعر الشعراء (هذا هو الأمير الجليل ذو الشرف الأصيل والطبع البالغ نقاؤه، والذهن المتناهي ذكاؤه، محمود سامي باشا البارودي).
هذه هي طريقة الباردوي في دراسته للأدب العربي، وكذلك كانت سبيله في دراسة الأدبين التركي والفارسي، فهو لم يختلف فيهما جميعا إلى معاهد العلم، ولم يجلس إلى الأساتذة والمؤدين في أماكن الدرس، ولا كان يتكئ في حياته على ما يتكئ عليه المغرورون في بلادنا من الشهادات والإجازات العلمية.
ولم يكن أمره كذلك إلا لأنه قد أوتي (من صفاء الفطرة ونقاء الذهن وكمال الاستعداد) ما لم يؤت غيره في عصره. وبهذه العبقرية الفذة استطاع أن يسمو بشاعريته إلى مرتقى استوى فيه على عرش الشعر العربي في العصر الحديث، وأصبح - بلا مراء - نابغة العصر، وإمام الشعر في مصر وغير مصر، وإليه يرجع الفضل في بعث دولة الشعر بعد أن ظلت قرابة ألف عام في جدثها، وعلى طريقة سار كبار شعرائنا أمثال صبري وشوقي وحافظ. ولقد بلغ من نبوغه في الشعر أن زاحم بمنكبه من سبقوه من فحول الشعراء، جاهليين ومخضرمين ومولدين، فعارضهم في كل باب بقصائد عصما، أربى عليهم في أكثرها.
وكان ظهور هذا الشاعر الخنذبذ في عصر لم يكن يهئ لظهور شاعر عظيم مثله، وخرج