من بيئة لا تنبت مثل زرعه، ونشأ بين فئة من الشعراء أمثال الليثي والنجاري والنديم والإبياري، أولئك الذين كان جل همهم، واصفي ما يعصر من قرائحهم أن يأتوا ببيت فيه نكتة بديعية!.
ولا تتعدى أغراضهم المدح والاستجداء، بشعر ليس فيه جديد وليس فيه رواء.
وقضى البارودي ما قضى من حياته بين وطنه ومنفاه الذي لبث فيه أكثر من سبعة عشر عاماً إلى أن انتقل إلى جوار ربه في يوم الاثنين ١٢ ديسمبر سنة ١٩٠٤ كما حققناه بمجلة الرسالة الغراء لا كما ذكره الدكتور هيكل في تقديمه لديوان الباردوي من أنه مات في الأيام الأخيرة من ديسمبر سنة ١٩٠٤!.
وقد خلف لنا ثروة خالدة في الأدب بعضها من شعره وبعضها مما اختار في الشعر والنثر وغادرها إلى رحمة ربه، مخطوطة لم يطبع منها شيء في حياته.
وفي سنة ١٩٠١ ظفر أهل الأدب (بمختارات البارودي) في أربعة أجزاء كبيرة من الغرار الكامل تشمل ما اختاره من شعر ثلاثين فحلاً من الشعراء المولدين، ثم ظلوا يرتقبون ظهور ديوانه، ومختاراته في النثر التي سماها (فيد الأوابد) وطال ارتقابهم حتى خرج إليهم في أواخر سنة ١٩١٦ جزآن من ديوانه لم يكادوا يطلعون عليها حتى ضاقت صدورهم بما حملا من شرح ممل ثقيل حشد فيه شارحة الشيخ محمود المنصوري أحد علماء الأزهر من اصطلاحات أهل المنطق وقواعد علم الكلام والأصول ما نفرهم منه وزهدهم فيه. وقد عد بعضهم هذا الشرح من المحن التي ألحت على البارودي طوال حياته من فقد أبيه في طفولته وموت زوجه وأولاده ومن نفيه عن أوطانه ثم فقد بصره في آخر حياته. ولم يكن نفور الأدباء إلا لأن الشعر لا يحتمل منطقا ولا فلسفة. وكان مما ثمنوه يومئذ أن لو خرج هذا الديوان عاريا من كل شرح حتى لا يغشى نوره مثل هذا السحاب الثقال - وظلت هذه الأمنية تعتلج في صدورهم حوالي ربع قرن إلى أن حملت إليهم جريدة الأهرام بشرى خفقت لها قلوبهم إذ روت أن ديوان البارودي قد فرغ من تصحيحه ودفع به إلى مطبعة دار الكتب لتتولى طبعة على نفقة وزارة المعارف وأنه سيخرج في ثلاثة أجزاء.
وفي سنة ١٩٤٠ ظهر الجزء الأول من طبعته الجديدة بشرح لا بأس به وتلاه الجزء الثاني في سنة ١٩٤٢ يحمل من قصائد الديوان إلى حرف (الكاف) ويدعونا الإنصاف إلى