ونورد هنا حادثة لعلها فريدة في حياة المازني الصحفي نرويها لدلالتها على ما ذكرناه، ولما فيها من فكاهة وطرافة في آن.
ذلك أنه عقب عودة سعد من منفاه، وفي صباح اليوم التالي لوصوله إلى القاهرة، كان المازني واقفا في محطة الترام في الإمام الشافعي حيث كان يسكن، فمر به شيخ اللحادين وهم الذين يتولون حفر المقابر وحراستها والقيام عليها، فرآه وأفضى إليه بأن سعداً آت لزيارة مقابر الشهداء. فبعث المازني من جاءه بقلم وورق، ووقف ينتظر، وبعد قليل أقبل سعد في سيارته ومعه بعض صحبه في سيارة أخرى فأشار إليها المازني فحملته معهم. وزار سعد مقابر الشهداء وألقى كلمة وجيزة دونها المازني، ثم قصد إلى قبر شهيد قبطي وألقى كلمة أخرى دونها المازني أيضا. ولفت بعض الحاضرين نظر سعد إلى المازني فحياه.
ورجع المازني إلى الأخبار، واعتذر للأستاذ أمين الرافعي من تأخره، فضحك، وقال إن سعدا أخبره بالتلفون أن المازني أبرع صحفي في العالم، لأنه عرف أن سعدا سيزور مقابر الشهداء، مع أن الذين رافقوه ما كانوا يعرفون هذا!. . قال الأستاذ أمين الرافعي (وطبعا وافقته ولم أكشف له عن سر هذه البراعة!) أي أنه لم يقل له إن المازني يسكن بين المقابر!.
وبعد، فقد غبرت على المازني في الصحافة سنوات طويلات المدد، كانت كلها سنوات كفاح وجلاد بعياً به جبابرة الرجال. وأدركه منها بلاء لا يقاس إلى جانبه بلاء التدريس. وعجمت عوده فألفته لاهشاً ولا رخواً، وامتحنت معدنه فإذا هو معدن القوة الكامنة في قرار المحيط أو الثورة القابعة في كون الصحراء. ولم تكن طريق المازني في الصحافة سهلة معبدة، وكان بطبيعته المتمهلة الدؤوب لا يحسن الركض ولا يدين به، فهو لم يصل إلى مكانته إلا خطوة خطوة وفي هينة وأناة وإلا بعد طول التوقل والإصعاد. وكانت تزداد مع الأيام أعباؤه ومتاعبه فلا يزداد إلا فرط جلد واحتمال، أو فرط سخرية واستخفاف. وقضى المازني الفترة الأخيرة من حياته على رغم الشيخوخة الزاحفة لا يترفق بنفسه ولا يرحم كبرته فكان أكثر الكتاب الصحفيين إنتاجا. واستكتبته الصحف على اختلاف ألوانها