تنصرف. فلما قالت لها الآنسة عطار: إن هذا السرك شيء قبيح، صار هذا السرك أكره شيء لها.
عجبت من هذه (الآنسة عطار) ما تكون؟ ومن أين لها هذا النفاذ إلى قلوب البنات؟ وماذا فيها حتى تكون الإشارة الواحدة منها أبلغ من مائة نصيحة مني، والبسمة من فمها أرضى للبنت من الهدية القيمة من يدي! وسألت البنت عنها:
- قالت: هي مدرسة السنة الثالثة، يحبها البنات كلهن، ألا تعرفها يا بابا؟
- قلت: من أين أعرفها؟
- قالت: إنها تلميذتك. هكذا قالت لي. تلميذتك، نسيتها؟!
وعرفت أخيرا من هي هذه (الآنسة عطار). لقد كانت تلميذتي حقاً وذكرت من أمرها (على قلة ما أذكر من أمور تلاميذي وتلميذاتي) ما يكون إن نشرته إماماً لكل طالبة، وقدوة لكل تلميذة، ومثالا للطالبة الجادة الشريفة المسلمة، فلذلك أنشره.
ذكرت كيف اضطرتني إلى الانتباه إليها، قبل أن أعرف اسمها وألزمتني (وأنا مدرسها) بتوقيرها قبل أن أخبر علمها؛ لأني رأيتها لا تشارك التلميذات في لهو في الفصل، أو عبث في الفسحة؛ ولم يكن يحاولن إشراكها معهن. وكن يتكلمن بينهن بلسان الألفة والتبسط والجراءة، فإذا وجهت إحداهن القول إليها اصطنعت الجد وتكلفت الوقار، وخاطبتها لا مخاطبة الترب للترب، بل التلميذة للمدرسة، والبنت للأم. وما كانت أكبرهن سناً، ولكن كانت أكثرهن أدباً، وأكبرهن عقلاً. وإذا ألقيت في الفصل نكتة ضحك لها البنات، كانت ضحكتها ابتسامة، تومض بلطف ويختفي بسرعة. وإذا عرضت كلمة فيها إشارة إلى ما لا يحسن، أو جاء بيت فيه تعليق بما لا يليق، علا خديها الاحمرار خجلاً وأطرقت حياء.
وكانت الطالبات يدخلن الفصل مكشوفات الرؤوس، يحسبن أن المدرس ليس رجلاً أجنبياً، وليس عليهن الاستتار منه، ولا عليه غض البصر عنهن، ومنهن من تلقي على رأسها شيئاً لا يستر شعراً ولا نحراً - أما هي فكانت تظهر وجهها وحده على الصورة التي صوره الله عليها، لا التي صورتها منتجات (ماكس فاكتور في هوليود). . . تلف حوله خماراً أسود على زي ابتكرته هي لنفسها، وسيقلدها فيه غيرها فتكون سنة حسنة لها أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة - لفاً محكماً أنيقاً، لا تنكره الشيخة المتدينة، ولا تستقبحه الفتاة