فالعربي العامي كالعربي البدوي: غلبت على كل منهما لهجته أو لغته بحكم تأثير بيئته ونشأته: الأعرابي ترك نفسه على سجيتها فاسترسل في لغته الفصحى لا يلوي على شيء غير متكلف إعرابا ولا متجنب لحنا، والعربي العامي السليقي البذلة يترك نفسه هو أيضاً على سجيتها فيتكلم بلغة أمه ولهجة بيئته لا يتكلف إعرابا ولا يتجنب لحنا: البدوي يعرب بحكم السليقية. والعامي يلحن بحكم السليقية. فليس الشاعر أو الراجز البدوي سليقي بقول فيعرب وحده بل إن الزجال الشعبي سليقي أيضاً يقول فيلحن ولا يعرب بحكم السليقية. كلاهما سليقيان.
بقى أن نورد شاهدا على السليقية الثانية (سليقية البذلة) أي على أن العربي العامي إذا استرسل في لغته الملحونة صح أن يوصف بالسليقية وان يقال أنه سليقي.
عثرت على شاهد لطيف المغزى رقيق الحواشي أورده الزمخشري في كتابه (الفائق) تعليقا على مادة ظرف قال: ومن حديث معاوية رضى الله عنه أنه قال لجلسائه يوما: كيف ابن زياد فيكم: قال: ظريف على أنه يلحن. قال: أو ليس ذلك اظرف له اهـ.
قال الزمخشري: وإنما استظرف معاوية ابن زياد لأن السليقية وتجنب الأعراب مما يستملح في البذلة من الكلام قال: ومنه البيت المشهور:
(منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا)
فالزمخشري استعمل السليقية بمعنى استرسال الظريف في البذلة من الكلام. وليست البذلة من الكلام الواردة في عبارته إلا التبذل وعدم التصاون في تحري الفصيح المعرب. ومن هنا صح لنا استعمال سليقية البذلة في مقابل سليقية الفصاحة.
فإذا كان علماء اللغة قد خصوا البذلة والابتذال والمباذل في رث الثياب أو في لبس الممتهين منها فإن شيخنا الزمخشري قد استعمله في رث الكلام وعاميه والمبتذل منه.
على أنهم يقولون في فصيح اللغة (كلام مبتذل ومثل مبتذل) إذا كان كثير الاستعمال ملهوج الذكر. ولكن قولهم هذا لا يستدل منه على جواز وصف اللغة الملحونة بالابتذال. فالكلام المبتذل والمثل المبتذل إنما جاءهما وصف الابتذال من ناحية اللهج بهما وكثرة الاستعمال لهما حتى لو قالهما الحضري البليغ أو البدوي الفصيح سميا مبتذلين بمعنى إنهما متداولان لا أنهما عاميان ملحونان وفرق بينهما.