للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فالبذلة في الكلام بمعنى العامية الملحونة إنما استفدناها مباشرة من عبارة الزمخشري. وفوق ذلك كله فإن اللحن في البذلة السليقية إن أنكره بعضهم واستبشعه فإن الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما استحسنوه وأفتوا بجوازه بل نصح بعضهم بأن يستعمل الكلام الملحون في مخاطبة المرء لغيره وفي تحديثه جلسائه لا في ما عدا ذلك فقال (لا تستعملوا الإعراب في كلامكم إذا خاطبتم. ولا تحلو منه كتبكم إذا كتبتم) كأنه يقول أوصيكم أن تعربوا كتاباتكم وتلحنوا في محاوراتكم.

ولعل هذه الوصية في مراعاة الإعراب في الكتابة وتركه في المحاورة إنما استندت إلى ما وقع للفراء مع هارون الرشيد: ذلك أنه دخل عليه يوماً وتكلم بكلام لحن فيه مع جلالة قدره وعلو رتبته في النحو. فقال جعفر يا أمير المؤمنين إن الفراء قد لحن. فقال الرشيد أتلحن يا يحيى؟ (ويحيى اسم الفراء) فقال يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن: فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع (أي في محاورة الناس) لحنت. فاستحسن الرشيد كلامه.

واعتذر صاحب صبح الأعشى للحانين في الكلام مؤيداً الوصية المذكورة فقال إن اللحن قد فشا في الناس. والألسنة قد تغيرت حتى صار التكلم بالإعراب عيباً. والنطق في الكلام الفصيح عيا. والذي يقتضيه حال الزمان الجري على منهاج الناس بأن يحافظ على الإعراب في القرآن والحديث والشعر والكلام المسجوع وما يدون من الكلام ويكتب من المراسلات ونحوها. ويقتفر اللحن في الكلام الشائع بين الناس الدائر على ألسنتهم يتداولونه بينهم ويتحاورون به في مخاطباتهم. وعلى ذلك جرت سنة الناس في الكلام مذ فسدت الألسنة وتغيرت اللغة. انتهى كلام القلقشندي وهذه المسألة أي مسألة استباحة اللحن والإخلال بالإعراب في لغة المحاورة موضع نزاع كبير بين فضلاء العصر ولا سيما أساتذة المدارس والمشتغلين بتعليم النشء.

وينبغي أن يزاد على المواطن التي عددها القلقشندي وحظر اللحن فيها من مثل المدونات والمراسلات - يزاد كلام المدرسين والمعلمين في قاعات الدروس حيث يبسطون محاضراتهم تحت أسماع الطلاب. فلا يجوز بحال اللحن فيها، ولا الإخلال في الإعراب في ألفاظها ومبانيها: فإن الناشئين في ليونة ألسنتهم وحساسية أدمغتهم قابلون للانطباعات

<<  <  ج:
ص:  >  >>