للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

معلوم إلى رواية الكلام الملحون من نوادر وملح، وهو موضوعنا الذي كنا فيه مع الجاحظ فقال: وكذلك اللحن في الإعراب إن مر بك في حديث من النوادر التي نرويها لك: لأن الإعراب ربما سلب بعض الحديث حسنه وشاطر النادرة حلاوتها قال: وسأمثل لك مثالاً: قيل لمزيد (وهو رجل صاحب نوادر) وقد أكل طعاماً كظه (أي ثقل على معدته) قي. فقال ما أقي؟ أقي! نقي! ولحم جدي: مرتي طالق، لو وجدت هذا قياً لأكلته. ألا ترى أن هذه الألفاظ لو وفيت بالإعراب والهمز حقوقها لذهبت طلاوتها ولأستبشعها سامعها.

والمؤلفون في نقد الشعر كابن قدامة لم يغب عنهم حسن ما قاله الجاحظ وابن قتيبة: فهم على شدة تنطعهم في نقد الأقوال وتمييز زيوفها أجادوا رواية الملحون، وحكاية السخيف من النوادر: قال ابن قدامة في كتابه نقد الشعر (وللفظ السخيف موضع آخر لا يجوز فيه غيره وهو حكاية النوادر والمضاحك وألفاظ السخفاء والسفهاء فإنه متى حكاها الإنسان بغير ما قالوا خرجت عن معنى ما أريد بها وبردت عند مستمعها اهـ.

هذه هي كلمتي في السليقية بنوعيها: السليقية في القول الفصيح، والسليقية في البذلة من الكلام. والسليقية الثانية هي سليقيتنا نحن أبناء هذا العصر فقد ملكت علينا ألسنتنا كما ملكت لسان الفراء في عصر الرشيد حتى أصبحنا غير قادرين على التفلت من أوهاقها إلا بتكلف وتلكؤ شديدين. وذلك يكون منا إذا رأينا أنفسنا مضطرين إلى إفهام غيرنا ممن لا يفهم لهجتنا ولا ما يحكى بها: كما إذا حاورنا أبناء المغرب الأقصى أو حاورونا، فإن لهجاتنا المختلفة تحول بيننا وبين الاستمتاع بحديثهم فنضطر إذ ذاك إلى ترك سليقية البذلة واللجوء في التفاهم إلى السليقية الفصحى وهي لغة القرآن وما أبركها لغة.

وأكثر ما تتحقق هذه الضرورة أي ضرورة الالتجاء إلى لغة القرآن حينما نجتمع بإخواننا المسلمين الأعاجم الذين أصابوا ولو قليلاً من الثقافة القرآنية أو الثقافة العربية: فإنه لا ينفس الكرب عنا وعنهم ويجعلنا ننعم بالحديث معهم إلا لغة القرآن. ويظهر أن وسائل النشر والإذاعة والآلات والمواصلات وفرت دواعي الاجتماع والتلاقي بيننا وبينهم في البعثات والمؤتمرات.

كل ذلك يمهد الطريق أمام استعمال اللغة الفصحى بيننا فتقوى فينا ملكة التكلم بها من حيث تضعف في نفوسنا إلى حد محدود سليقية البذلة العامية.

<<  <  ج:
ص:  >  >>