(ومر عام وكنا قد انتقلنا إلى بيت آخر، فمررت بدارها يوماً بعد الغروب، وكان الباب موارباً فرأيتها تسقي أصص الزهر في فناء البيت. فوقفت أتأملها لحظة وهي تقبل الورد والأزاهير بعد سقيها ورشها، ثم دخلت في رفق وهمست باسمها فلم تسمع، فأعدت الهمس فانتبهت كالمذعورة وقالت: إبراهيم؟ وكررت ذلك. فاقتربت منها وقلت: نعم! هل أفزعتك؟ ووقفت: شفتاها مفترقتان ووجهها تصبغه الحمرة من أثر المفاجأة. ولم اكن أعرف ماذا ساقني إليها سوى أني اشتقت أن أراها وأن اقف معها لحظة أحادثها، وقالت: لقد كان يجب أن أفزع فما سمعتك تدخل، ولكن الغريب انك خطرت ببالي وأنا أسقي هذه الأصص، فكدت أصيح لا أدري لماذا، وقلتك أصحيح هذا؟ إنه يسرني. قالت ضاحكة: لم أكن أفكر فيك تفكيراً يسرك، لقد كنت ساخطة عليك. فضحكت مثلها وقلت: ماذا جنى هذا الشقي يا ترى؟ قالت: لست ساخطة لأنك فعلت شيئاً، لقد كنت عندكم أنا ووالدتي وأختي وقضينا النهار كله هناك تقريباً، وأنت لا أثر لك في البيت ولا يدري أحد أين ذهبت، وفي وسعك أن تتصور مللي بين السيدات العجائز. قلت: إني أفضل أن ألقاك هنا، ويسرني أن أجدك وحدك. قالت: وهل كنت واثقاً أنك ستلقاني هنا؟ قلت: كلا. قالت: إذن لم جئت الآن؟ قلت: لا أعلم. اشتقت أن أراك لا أدري لماذا، فجئت. ومر بخديها طيف من الحمرة ما جاء حتى ذهب، ففتحت عليها عيني وأتأرتها النظر فتراجعت خطوة وهي تقول: ينبغي أن ادخل. فوقفت أرمقها وهي تدور لتمضي عني، ثم كأنما انشق عني سور فاندفعت إليها ووقفت إلى جانبها وجعلت أدير لساني في حلقي بلا كلام وقلبي يخفق، وتناولت يدها وذهبت بها إلى الباب حيث ظللنا برهة صامتين، ثم صاحت: يدي! يدي ستحطمها. فانتبهت وأطلقت يدها وأسفت. فقالت بصوت عذب: دعني أدخل بالله.
وبعد شهور عدت من المدرسة فإذا هي ووالدتها في بيتنا، ففرحت، وكانت يدي ترتجف وعيني إلى الأرض. وذهبت إلى غرفتي فأدركتني في الصالة وقالت: خذ. وناولتني عوداً من ثمر الحناء، فأخذته في صمت وأدنيته من أنفي، ووقفت أشمه وأشمه وقد غاض معين