الكلام وانقطع عني مدده. فلما رأت صمتي وارتباكي قالت: سنذهب إلى الريف. فأنطقتني هذه المباغتة وقلت: ستذهبين؟ وكم تظلين هناك؟ قالت: عاماً، أتستكثر ذلك؟ قلت: بالطبع. ماذا تنوين أن تصنعي هناك هذا العام؟ قالت: كيف يعنيك أن تعرف؟ وضحكت، فجلت ضحكتها في صدري ونفت مخاوفي، ونظرت إليها معجباً وأحسست بالدم يتدفقفي عروقي، وبأنفاسي تسرع. وحمل إلي النسيم ألوان طيب شعرها، فمددت يدي إلى كفها وكانت شفتاها مفترقتين وعيناها في عيني، وصدرها يكاد يلمسني، فألفيت نفسي أنحني عليها ألمس شفتيها بفمي، فصا وجهها كالجمرة، ولكنها لم تتحرك ولا تكلمت، ودار رأسي كالمخمور فتقهقرت خطوة، وهي واقفة كالتمثال وما أظنها كانت تتنفس أو تفكر، فما رأيت صدرها يتحرك أو أجفانها تختلج، كلا، لا شيء إلا هذا الجمر في خديها ينبئ أنها حية. وأفاقت ثم أصعدت زفرة كأنما كنت لطمتها ولم أقبلها. ثم هتفت بي، فأسرعت وأخذت يديها في كفي ثم رفعتهما وقبلتهما وقلت لها: أغاضبة أنت؟ قولي إنك لست غاضبة. فأجابتني بهزة خفيفة من رأسها. فقلت: لست غاضبة، أعلم ذلك وإلا فما قبلتك، تكلمي. فقالت همساً: دعني أذهب، إني خائفة. فقلت: إنك جميلة، جميلة. وانهلت على يديها مرة أخرى ألثمهما ظهراً وبطناً. ثم سحبت يديها ببطء ووضعتهما على صدرها، وقالت وهي تتلعثم وترتجف: قل لي ما هذا؟ قلت، ووضعت يدي على يديها فوق صدرها: هذا؟ ألا تعلمين أنه الحب؟ فتنهدت وأرخت يديها وتركتهما تهويان وقالت: سأذكرك دائماً قلت: كلا هذا لا يكفي. ولم تكد شفتاها تفترقان، وهمست كأنما تتنفس: سأحبك دائماً).
وكان هذا بيننا آخر لقاء!
وبلغ المازني مبالغ الشباب، وصار طالباً بالمدرسة الخديوية، وكان يؤم سمته كل صباح من البيت إلى المدرسة عن طريق درب (الجماميز). فلمح ذات يوم فتاة في مثل سنه يتبعها خادم نوبي يحمل لها حقيبتها وكتبها، وكانت تأتزر، أي تتخذ (حبرة) وتضع على وجهها برقاً أبيض ينسدل من أرنبة الأنف ويحجب ما تحته - الفم والخدين والعنق. ووقعت الفتاة من نفسه وشغلته محاسنها وعرف المازني أنها تلميذة في المدرسة السنية، وأنها تقطن نفس الحي في الناحية الأخرى منه. فصار يترصد خروجها وأوبتها ليشبع عينه من التملي بها، ويهدهد ما علق قلبه من الهيام والصبابة، وما كان حظه ليزيد عن النظر المجرد، (ولم أكن