أكلم حبيبتي هذه، ولا كانت تكلمني، ولكن على الأيام صارت العين تقع في العين). . . ولعل الفتاة قد أحست بغريزتها معنى نظراته هذه، وألهمتها طبيعة الأنوثة ما كان يشده إليها ويجذبه نحوها فقد كانت حلوة ممشوقة، يزيدها فتنة وحسناً رداؤها الجميل الذي يوحي بالنعمة والرفاهية، ويلقي عليها سواد الحبرة اللماع وبياض النقاب ظلاً من السحر يغري بارتياده. وكانت كلما التقيا تلقي إليه بنظرة، ينقلب بعدها قرير العين مثلوج الخاطر. وظلا هكذا يتعارفان بالنظر دون الحديث مدة عامين. ثم شاء القدر أن يفترقا دون أن يعرف أحدهما اسم صاحبه أو شيئاً عنه.
ووسع قلبه الشاب أن يجدد علائقه وأن يجيب نداء الحب لأنه عنده نداء الحياة. بل إذا كان أثقل عليه الشعور بالحرمان أوحى إلى نفسه الحب، وقد يفعل الإيحاء فعله ويحدث أثره، ويتهيأ له الشوق الطبيعي والرغبة الصادقة إلى من يجاوبه هذا الإحساس. فلم يخل قط من حب يستجد علاقته ويهيئ أسبابه، أو كما قال (ما أكثر ما عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي!).
وفي وصف تلك الفترة يقول الأستاذ العقاد من قصيدة له إلى المازني:
أنت في مصر دائم التمهيد ... بين حب عفا وحب جديد
بين ماض لم يذبل الحسن منه ... وطريف كاليانع الأملود
أنت كالطير ربما شالت الطي ... ر عن الأيك وهو جم الورود
ثم تزوج المازني وهو في سن العشرين، وكان - كما يقول لا أعرف عن المرأة إلا أنها أنثى ولا عن الزواج إلا أنه وسيله مشروعة لتعارف الجنسين. فلم تكد تبدأ حياته الزوجية حتى صارت - بعد شهور - إلى شر ما يمكن أن يصيب زوجين من النفرة وقلة الاحتمال وعدم الاستعداد للتفاهم والعجز عن إصلاح الفساد. وكاد الأمر ينتهي إلى الفرقة النهائية. وقضى في جحيم هذا الخلاف ثلاث سنوات لم ينجه من عواقبه إلا درس طبيعة المرأة وغريزتها، وعاش مع زوجته ضعف هذا الزمن (كأسعد ما يكون زوجان في هذه الدنيا التي لا تخلو من المنغصات) ثم ماتت هذه الزوجة فحزن عليها حزناً بالغاً دل على ما كان يكنه لها من حب. ونستطيع أن نضع حبه هذا لزوجته إلى جوار ذلك الحب الذي عرف ألواناً منه من قبل، لأنه في الحالين يصدر عن وتر واحد في نفسه وإن اختلفت أصداءه