من الحنطة وما يقتضيه الحصول عليه من تعاون الزارع والطاحن والعاجن والخابز فضلاً عن تعاون من ينتجون لهؤلاء آلات صناعاتهم، فهنا نرى كفايات متفاوتة تستتبع تبادلاً للخدمات وتعاوناً بين أصحاب مختلف الحرف كل في اختصاصه، وهذا بعينه هو التضامن بتقسيم العمل الذي تبرزه النظرية الحديثة.
وأما عن قيام الدولة فيقول ابن خلدون:(إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم؛ وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية لدفع العدوان لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يضل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك.
وهكذا نرى أن ابن خلدون - وبينه وبين دوجي نحو ستمائة عام من الزمان - قد سبق إلى النظرية التي اعتبرت للفقيه الفرنسي نصراً وفتحاً وعرضها عرضاً واضحاً بيناً لا فرق بينه وبين الشكل الحديث للنظرية إلا في العبارات والمصطلحات.
وليس هذا إلا قطرة من بحر ابن خلدون الذي ينزح منه كل مطلع على آثاره الخالدة على الدهر، وخاصة مقدمته التي تعتبر بحق كنزاً حافلاً بجواهر الآراء في علوم السياسة والاجتماع. فلا مبالغة إذن فيما تصفها به دائرة المعارف الإسلامية إذ تقول أنها (ستظل دائماً أعظم مؤلفات ذلك العصر وأهمها من جهة العمق في التفكير والوضوح في عرض المعلومات والإصابة في الحكم، ويظهر أنه لم يفقها كتاب ما لأي مؤلف إسلامي.).