وتلحظونه من بين ثنايا ما تقرءون، أما أنا فإني أتحدث إليكم عن علم ويقين؛ ذلك أني كنت أحد الأدباء الذين امتحنوا في العهد القديم، فقد تحدثت خلاله وكتبت أكثر مما تحدثت وكتبت خلال العهد الجديد، وأؤكد لكم أنني لم أكن أفرغ يوماً أو ليلة لكتاب أو حديث دون أن أتشعر غضب السلطان علي وبطشه بي إذا كان الغد! والأدباء - والحمد لله - بارعون مكرة مهرة في اصطناع الحيلة للتخلص من بطش السلطان، بل للعبث بعقل السلطان! فهم يلتمسون من طرق الرمز ومن التواء التعبير ومن فنون المناورات والمداورات فيما يكتبون وفيما يقولون ما يورط المراقبين في ألوان من الارتباك لا حد لها!. ولقد كنت في أوربا يوما مع الكاتب الكبير (أندريه جيد) فجاءتنا صحيفة تعلن أن إسماعيل صدقي - في محاربته للشيوعية - قد استطرد فسن قوانين لعقاب الذين يدعون للعدل الاجتماعي ويطلبون الحرية للناس، فضقنا بذلك أشد الضيق، وكتمت في نفسي غيظاً بالغاً، وأضمرت عزماً على مقاومة هذه القوانين، فلما عدت إلى مصر - والرقابة في أوج طغيانها - لم أجد أيسر أو أبسط في مقاومة تلك القوانين من أن الجأ إلى آيات من القرآن الكريم تدعو إلى العدل بين الناس، وتنادي بحقهم الطبيعي في الحرية والكرامة، فأجعلها موضوعاً لكلماتي، فإن استطاع إسماعيل صدقي عن يصادر القرآن الكريم فقد ورط نفسه ووقع في حرج شديد، وإن لم يسطع قرء المقال وسمعت الدعوة إلى العدل الاجتماعي والحرية!
ولم أكن منفرداً بهذا المكر والاحتيال بل كان الأدباء جميعهم كذلك، وكان بينهم وبين (النيابة) حرب متصلة، وكانوا يقهرون (النيابة) في أكثر الأحيان بما يحذقون من مكر واحتيال!
وهذا أمر - وإن نجا الأدباء من عقابيله - فقد كان يفسد على الأدباء تفكيرهم ويجعلهم منغصين دائماً، فليس من الطبيعي ألا تفكر وألا تكتب إلا وأنت تعلم أن ورائك رقيباً يحاسبك ويؤاخذك ويستطيع أن يجرك إلى ما لا تحمد عقباه!
تلك كانت الظاهرة الأولى من ظواهر الأدب قبل العهد الجديد، وأما الظاهرة الأخرى فهي ظاهرة (الرغبة). وأنتم تعلمون أن في الناس ضعافاً لا يقدرون على المقاومة، وإن قدروا يوماً فلن يستطيعوا المضي في المقاومة والثبات على متاعبها ومصاعبها، وأن فيهم الكثيرين ممن يستهويهم الإغراء وتستذلهم المنفعة. وحياة الأدباء - كما تعلمون - معرضة