لكثير من الضيق والعنت والإقلال، فما أيسر أن يضعف البعض منهم أمام مظاهر الإغراء وملحاته فيضعوا أدبهم موضع التجارة والمساومة، والأدب الذي ينتهي إلى تلك الخسة والمهانة شر ليس وراءه شر، وفساد للذوق وللخلق وللنفس، وليته فساد يقف عند حد منشئه ولكنه يتجاوزه إلى قرائه وقد يكونون آلافاً من الناس القليل منهم من يفطن للفساد أو لا يضعف أمامه.
ولقد حدثني الأستاذ مصطفى عبد الرزاق رحمه الله أن كاتباً من الكتاب كان له راتب معلوم كل شهر من المصروفات السرية، فإذا جرى عليه هذا الراتب في ميقاته المضروب سكت عن كل معارضة، وصمت عن كل قول يغضب له الإنجليز أو الوزراء الذين يصانعون الإنجليز. أما إذا تأخر هذا الراتب عن ميعاده المضروب عارض وثار وكتب - وكان سعد في المنفى - يطالب بعودة (سعد) من منفاه، فتنتبه إليه السلطة وترسل إليه راتبه فينسى سعداً إلى أن يدور الشهر فيعود فيذكر سعداً.
وهكذا دواليك!. . . هاتان هما الظاهرتان الملحوظتان - في وضوح كثير - على أدبنا قبل العهد الجديد، وإذا كنت قد فهمت أحاديث قائد الثورة وخطبه وبياناته - وما أشك في أني فهمتها لأنه لا يحسن المداورة ولا يعرف المصانعة ولا يخشى رقيباً! - فأظن أن أول مظهر لفلسفته إنما هو تحرير المصريين جميعاً من الطغيان وهو إذا حرر المصريين من الطغيان فقد حرر أدب المصريين من الخوف ومن الرغبة ومن كل أعقاب الطغيان، وقد بدأ في ذلك موفقاً من غير شك.
فالذين يظنون أن الثورة لم تهد - بعد - إلى الأدب شيئاً مخطئون، فقد أهدت الثورة إلى الأدب أن أتاحت له أن يظهر جلياً صريحاً سافراً لا يلتوي ولا يداور ولا يحتال ولا يخشى عنتاً أو بطشا.
لقد كان أدبنا تصويراً للبؤس والحرمان والشقاء والظلم الذي كانت الأمة ترسف في أغلاله، كان مرآة للظلام الحالك الذي كانت تحيا فيه الأمة، والمرآة في الظلام لا تكاد تعكس شيئاً فكنا نفر من هذا الظلام إلى غير مصر، كنا نبعد في الزمان ونبعد في المكان فنتكلم في التاريخ القديم وفي الأمم القديمة والمعاصرة لنسلي أنفسنا وقراءنا عما نحن فيه من البأساء والضراء.