تلك هي أمه. وقد مر في بعض هذه الفصول وصف وجيز لها. وهنا نقول إنها كانت لابنها أكثر من أم؛ فقد كانت له في طفولته أمه وأباه، وكانت له في رجولته أخته وصديقه. وكان، وهو أب وزوج، يعود حيالها طفلاً لا رأي له دونها، ويكل إليها كافة شأنه تصرفه له وتعينه عليه. ومن الحوادث التي تدل على شخصيتها القوية وأثرها الموحي، أنه جاءها يوماً، عقب استقالته من وزارة المعارف وكان ذلك في بدء الحرب الكبرى، فألقى بين يديها بقراطيس فيها (مرتبه) نقوداً فضية، وقال لها: هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة. قالت: يعني؟ فأخبرها أنه استقال، فلم تزد على أن قالت: على بركة الله.
ومن حنانها عليه وحبها له أنها كانت تقاسمه الدواء إذا مرض، وتجرع منه أمامه قبل أن تقدمه إليه، فينكر ذلك منها ويقول لها يا أمي كفي عن هذا. فلا يكون جوابها إلا أنه قلب الأم.
وقد كان المازني ينطوي لها على الحب والاحترام والوفاء وأهدى إليها في حياتها كتابه (رحلة الحجاز) وكان لا يفتأ يذكر فضلها عليه، ويسرد حوادثها معه، ويتحرى فيما يعمل مرضاتها وهناءتها. ويقول: لو وسعني أن أجعل حياتها نعيماً خالداً وسروراً دائماً وجذلاً لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعاً إلا بعض ما يجب لها). فلما ماتت ظل يستوحيها في كل ما يقوم بخلده أو ما يمضي عزمه عليه، كأنها حاضرة معه لم تفارقه وكان ربما عن له الشيء فلا يلبث أن يستدبره وينصرف عنه، لما يقوم في نفسه من أن أمه لم تكن لترضاه له أو تشير عليه به لو كانت بقيد الحياة.