الأبد. وتصور الدار الخلاءَ إلا من أمه وإخواته. يا للفاجعة! يحب أن يون رَجُل الدار؛ لقد لقنه أبوه لمثل هذا اليوم دروس الرجولة منذ كان في المهد صبياً. وهتف بالكلمة الغالية لآخر مرة:(يا أبي، فانني أنت هنا!)
وعاد الى الدار مطرق الرأس، ليضع يد الرجل الصغير في أكف الرجال الكبار يشكرهم على ما جاءوا لتعزيته!
أجاءوا يُعزون (الرجل الصغير) أم جاءوا يُحصوُن ما خلف الميتُ وأنفيهم تسيل طمعاً؟
وقال له أمه:(ما بي خوف الوحدة وأنتَ لي، فقم على الدار والدرس؛ إن الرجولة تقتضيك أن تكون من أهل العلم والكرامة، فقد كان أبوك عالماً كريماً. كن للناس ما كان أبوك: وجهاً طلقاً، ونفساً سمحة، ويداً معطية، وقلباً يفيض بالحب!
* * *
وخُيل الى الغلام أنه الرجل، وطَمْأنَهُ الى الناس أن أباه اوصاه بالناس، فلم يرد لأحدٍ طَلِبه، وإنه ليحمل من هموم الناس أكثر مما يحمل من هموم نفيه؛ مؤمناً بأنه يفعل واجبه للجماعة، ويؤدي دْينه للأنسانية؛ مستيقناً أن الناس ستحمل عنه إذا نابه هم!
وقال له جاره يوماً: (إن دائني يركب كتفي، فهل عندك فضلٌ من المال الىحين؟)
وأعانه ما قَدَر على إعانته، فاذا جارهُ لا يقلقاه من بعدها إلا حادَ عن الطريق؛ وإن غب (الرجل الصغير) لقيلاً من سوء الظن، وإن فيه لكثيراً من الحياء!
وهل يحيد الرجل عن طريقه إلا من عسرٍ يستحي أن يستعلن، وهل في الناس - فيما يرى - من يجحد الفضل وينكر العارفة. . .؟
وسأله صديق مرة:(هل تعينني على تأديب ولدي؟ فما بي طاقةٌ على أن ادفعه الى معلم بالمال؛ وما بي طاقة أن اهمله من التعليم!)
واهتزت نفس الفتى، لأنه - فيما بدا له من صاحبة - قادرٌ على أن ينفع النس مثل أبيه. وشد الولد من العلم ما شدا، فأنكر معلمه وتنكر له أبوه!
وقال رجلنا لنفسه:(با للأب المكدود! لقد حَزبته مشغلة العيال عن ذكري؛ ليته يستعينني على بعض أمره!)