للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولا تكون وليدة ملاحظاتنا الحنينة، ولكنها ابنة تصور راسخ فينا منذ القدم، مندس في شعورنا. فما هو إلا أن نهيب بهذه التصورات حتى نحس أن هذه الصور أخذت تمر بنفوسنا، فاذا أردنا أن نعرف الكون فما علينا إلا أن نتلقى في صحف أنفسنا وأن نتبع بنظرنا الباطني مجرى الأشياء، وأن نقف على الحكمة المنطقية الآلهية التي أبدعت الكون؛ وهكذا يغدو علمنا مطلقاً وليس له الا صبغة الوحدة المسيطرة على العالم، وتصبح الفلسفة لا تتوقف على التأمل الذي يلاحظ الأشياء، ولا يدخل فيها ولا يحبونا إلا بمعرفة جزئية محدودة؛ وإنما التامل الحقيقي والادراك العقلي يجب أن يكونا قسماً من الخيال النظري الذي يوحد بين الأفكار ويرتبها، وإنما غرض الفلسفة أن تعمر الكون وأن تشيده وأن تعمل في الخلفية على إبداء وجهتها الشعرية والفنية

لم يقف (شيلنج) جهوده على الفلسفة وحدها، وإنما كان يخوض طوراً في الفلسفة الكونية والنفسية، وتارة في التاريخ والفن، وهو يفوز في ساحة، ويخفق في أخرى؛ أما فلسفته النظرية فقد جابهتها الحقيقة مجابهة قاسية، وعلة ذلك أنه كان يجنح كثيراً إلى الافتراض، وقد يكون الافتراض أحد العوامل الأساسية في تقدم العلم، ولكنه لا يغني شيئاً في تحليل المهمات التي لا يتناولها التحليل. وأما نظراته في التاريخ فسرعان ما وهنت. أركانها واضطربت أصولها، وهو يمشي على أثر (فيخت) الذي قسم العصور الانسانية إلى خمسة أدوار؛ يبدأ أولها بعصر الانسان الأول الذي لم يدنس عقله ونفسه شيء. وينتهي آخرها بالعصر الذي سيتسامى فيه الانسان وتحمله تأملاته النقية إلى فردوسه المفقود؛ ولكن (شيلنج) حدد تاريخ الانسانية بثلاثة أدوار

إن عبقرية (شيلنج) لم تبرز واضحة إلا فيما استمده من قلبه وانتزعه من نفسه؛ وفي + مذهبه الذي لم يُوثق فيه خياله بوثاق العقل المحدود، ولم يجد في ادنائه من الحقيقة نُكراً. هذا المذهب الذي احتوى نظراته السامية في الفن الذي وجد فيه شيئاً أسمى من الفلسفة. فالفيلسوف قد يُدرك المثل الأعلى ويفهمه ويقف عند ما وصل إليه عقله. أما الفنان فهو يأخذه ليسكبه في قوالب مادية، وهو في خلقه وابداعه لا يقلد الطبيعة، ولكنه يقلد ذلك الفكر الجبار الذي أبدع الطبيعة

عنت (لشيلنج) يوم كانت تربطه الصداقة بالشاعر (شيلجل) فكرة شعرية سامية في مناجاة

<<  <  ج:
ص:  >  >>