الأشياء رداء رقيق جداً من الضوء، وحين تتفرق النفس كأنها تريد أن تتابع الشمس في مسراها من وراء الظلمة الكثيفة المقبلة.
وإذا أختار الكاتب هذا المكان المبهم، وهذا الوقت المبهم لم يكن من العسير عليه أن يختار أشخاصاً إن ظهرت صورهم المادية ظهوراً واضحاً في بعض الأحيان، فأن صورهم النفسية وما يصدر عنها من الأحاديث والخواطر مبهمة شديدة الإبهام ملائمة أشد الملائمة لما يحيط بها من زمان ومكان. ولعل أحسن مظهر لبراعة الكاتب إنما هو إنشاء هذه البيئة الغامضة الواضحة المبهمة الجلية التي هي بين بين.
موضوع القصة نفسه يقتضي هذا الموقف المتوسط بين الوضوح والغموض، فنحن في مدينة صغيرة من مدن فرنسا كانت هادئة مطمئنة تجري حياة أهلها في اضطراد لا نتوء فيه كأنه السهل المنبسط. ثم يضطرب أمرها فجأة وتحدث فيها حوادث غير مألوفة كأن شيطاناً ماكراً قد أشرف على أمورها فقلبها رأساً على عقب. تعودت أن تجيل بين أهلها في كل عام طائفة من أوراق (النصيب). فإذا جاء موعد القرعة فقد تعودت المدينة أن تخرج القرعة لأغنى أهلها إلا في هذه السنة فقد خرجت لرجل فقير. تعودت أن تؤدي عملية الإحصاء من حين إلى حين كما تؤديها غيرها من المدن فإذا سألت الأسر عن عددها ردت بأجوبة تلائم العرف والقانون إلا في هذا العام، فالعمدة يستحي أن يقدم إلى المركز أوراق الإحصاء لأن الناس قد أحصوا أنفسهم، وكلابهم، وماشيتهم. ولأن الرجال لم يضعوا زوجاتهم في أجوبة الإحصاء، وإنما وضعوا خليلاتهم. تعودوا أن ينهر الرجل صبيه فلا يثور الصبي، وأن يزجر كلبه فلا يثور الكلب، أما في هذا العام فالصبيان ثائرون بآبائهم وأمهاتهم، والكلاب ثائرة بأصحابها وسادتها. وعلى هذا النحو أضطرب في المدينة كل شئ. ومصدر الاضطراب فيما يظهر أن إشاعة ملأت المدينة بأن شبحاً يظهر لبعض أهلها إذا تولى النهار وأقبل الليل. وقد صدق الناس هذه الإشاعة واطمأنوا إليها فكلهم يلتمس الشبح وكلهم يراه، وكلهم يخافه، ويحتاط للقاءه. وانتهى أمر هذا الاضطراب إلى باريس فأرسلت الحكومة المركزية مفتشاً إلى هذه المدينة يبحث ويستقصي، وأمرته بأن يحسم الداء إذا انتهى إلى أصله. وفكرة الحكومة أن هذا عارض من الضعف العقلي ومن الشعوذة قد ألم بهذه الدينة، فيجب أن يرد عنها وأن يبسط عليها سلطان العلم والعقل، ويقبل هذا