النفوس المختلفة عواطف وأهواء مؤتلفة أو متقاربة تقارباً شديداً. إنما قصاراها أن تدفع بك في عالم من الخيال لا حد له. فأنت تتصور فيه ما تشاء. وأنت تحس فيه ضروباً متباينة من الإحساس وقد تسمع اللحن الموسيقي الآن فيثير في نفسك لوناً من الخواطر وتسمعه بعد ذلك فيثير في نفسك لوناً آخر. وكذلك يذهب أصحاب الكلام بالكلام حتى يجعلوه فناً من النغم وضرباً من الموسيقى، وحتى يستطيعوا أن يلقوه إليك فإذا أنت لا تفهم منه شيئاً دقيقاً جلياً كما تعودت أن تفهم من الكلام. ولكنك على ذلك لا ترغب عنه ولا تنفر منه بل تؤثره ولا تعدل به شيئاً.
في هذه القصة خداع غريب خطر لأنه يخيل إليك إنك تفهم ما تقرأ على وجه من وجوه الفهم فتمضي بالقراءة متابعاً فهمك هذا مطمئناً إليه، ولكنك لا تلبث أن تضل الطريق. وإذا أنت في واد غير ذلك الوادي الذي كنت تمضي فيه. وما يزال كذلك ينقلك من واد إلى واد ويثب بك من مذهب في الفهم إلى مذهب آخر حتى تنتهي القصة. وإذا أنت تسأل نفسك ماذا فهمت أنت منها وماذا أراد الكاتب بها إليه.
ولا بد لي من أن ألخص لك المقدار الذي يستوي الناس جميعاً في فهمه من هذه القصة حين يقرءونها وهو هذه الصورة الظاهرة التي يقسمها الكاتب إلى مناظر وفصول. ولكني أحب أن تفهم أن هذا التلخيص لا يعطي شيئاً ولا يصور ما أراد الكاتب. وقد قرأت لجماعة من النقاد فما أرى إنهم فطنوا لما قصد إليه في دقة ووضوح.
كل شيء في القصة مبهم قد تعمد الكاتب إبهامه، حتى الأماكن التي تقع فيها حوادث القصة، والأوقات التي أختارها الكاتب لوقوع هذه الحوادث. فأكثر ما يقصه عليك الكاتب يجري في مكان غير محدود ليس هو داخل المدنية وليس هو شديد البعد منها وكأنه في طرف من أطرافها حيث تتصل عمارات المدن بالفضاء الواسع الطلق. وهو في غابة أو في شيءيشبه الغابة، تتبين فيه الأشجار ولكنك لا تضيق بها ولا تحس كثافتها والتفافها. والمكان واسع قد كسا أرضه العشب وأنتثر فيه زهر كثير مختلف. ولا تقع حادثة من حوادث القصة في أول النهار أو في وسطه حين تستطيع العين أن تحيط بالأشياء وتحقق النظر فيها وحين تستطيع النفس أن تتابع العين فتفكر في شيءبين محدود.
وإنما تقع الحوادث في الأصيل حين يختلط آخر النهار بأول الليل، وحين يضطرب على