قال الشيخ: وجهدتُ أن أترك الخمر، فلم يأت لي ولم أستطعه؛ إذ كنت منهمكاً على شربها، ولكن حب ابنتي وضع في الخمر إثمها الذي وضعته فيها الشريعة، فكرهتها كرهاً شديداً، وأصبحت كالمكره عليها، ولم تعد فيها نشوتها ولا ريها؛ وكانت الصغيرةُ في تمزيق أخيلتها أبرعَ من الشيطان في حَوِْك هذه الأخيلة، وكأنما جرتني يدها جراً حتى أبعدتني عن المنزلة الخمرية التي كان الشيطان وضعني فيها، فانتقت من الاستهتار والمكابرة وعدم المبالاة، إلى الندم والتحوب والتأثم، وكنت من بعدها كلما وضعت المسكرِ وهمت به، دبت ابنتي إلى مجلسي؛ فأنظر إليها وتنتشر عليها نفسي من رقة ورحمة، فأرقب ما تصنع، فتجيء فتجاذبني الكأس حتى تُهْرِقها على ثوبي، وأراني لا أغضب، إذ كان هذا يسرها ويضحكها، فأسر لها وأضحك
ودام هذا مني ومنها، فأصبحت في المنزلة بين المنزلتين؛ أشرب مرةً واترك مراراً، وجعلتُ أستقيم على ذلك، إذ كانت النشوة بابنتي أكبر من النشوة بالزجاجة، وإذ كنتُ كلما رجعتُ إلى نفسي وتدبرت أمري، أستعيذ بالله أن تَعقِل ابنتي معنى الخمر يوماً فأكون قد نجستُ أيامها، ثم أتقدم إلى الله وعليَّ ذنوبها فوق ذنوبي، ويترحم الناسُ على آبائهم وتلعنني إذ لم أكن لها كالآباء، فأكون قد وُجدتُ في الدنيا مرةً واحدة وهلكتُ مرتين
ومضيتُ على ذلك وأنا أصْلُح بها شيئاً فشيئاً وكلما كبرت كبرت فضيلتي، فلما تمَّ لها سنتان ماتت!
قال الراوي: وسكت الشيخ فعَلِقَتْ به الأبصار، ووقفت أنفاسُ الناس على شفاههم، وكأنما ماتت لحظاتٌ من الزمن لذكر موت الطفلة، وخامر المجلسَ مثلُ السكْر بهذه الكأس المُذهلة، ولكن الطفلة دبت من عالم الغيب كما كانت تصنع، وجذبت الكأس واهرقتها، فانتبه الناس وصاحوا: ماتت فكان ماذا. قال الشيخ: فأكمدني الحزن عليها، ووهن جأشي، ولم يكن لي من قوة الروح والإيمان ما أتأسى به، فضاعفَ الجهلُ أحزاني، وجعلَ مصيبتي مصائب. والإيمانُ وحده هو أكبر علوم الحياة، يُبصرُك إن عميتَ في الحادثة، ويهديك إن ضَلِلت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكونُ وإياها على المصيبة، لا عدوها تكون المصيبة وإياها عليك؛ وإذا أخرجتِ الليالي من الأحزان والهموم عسكرَ ظلامِها لقتال نفسٍ