وثبتْ كَرَمْية السهم، فجاءت بين يديّ، ومدت إلي شِمالها فتعلقت بها، ومدت يمينها إلى التنين فولى هارباً. وأجلستْني وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدَتْ في حجري كما كانت تصنع في الحياة، وضربت بيدها إلى لحيتي وقالت: يا أبت (أَلَمْ يَأنِ للذينَ آمنوا أن تَخْشَعَ قٌلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟)
فبكيتُ وقلتُ: يابُنيّة، أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي. قالت ذاك عملُك السوء الخبيث، أنت موتيه حتى بلغ هذاالهول الهائل والأعمال ترجعُ هنا أجساماً كما رأيت. قلت: فذاك الشيخُ الضعيف الذي استجرْتً به ولم يُجرْني؟
قالت: يا أبتِ، ذاك عملك الصالح، أنت أضعفْتَه فضَعُفَ حتى لم يكن له طاقة أن يغيثَك من عملك السيئ، ولو لم أكن لك هنا، ولو لم تكن أتبعت قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فَرّحَ بناته المسكينات الضعيفات - لما كانت لك هنا شمال تتعلق بها، ويمينٌ تَطْرد عنك
قال الشيخ: وانتبهتُ من نومي فزِعاً ألعن ما أنا فيه، ولا أراني أستقر، كأني طريدةُ عملي السيئ كلما هَرَبتُ منه هَرَبت به؛ وأين المَهْرَبُ من الندم الذي كان نائماً في القلب واستيقظ للقلب؟
وأملتُ في رحمة الله أن أربح من رأس مالٍ خاسر، وقلت في نفسي: إن يوماً باقياً من العمر هو للمؤمن عُمْرٌ ما ينبغي أن يستهان به؛ وصححت النية على التوبة، لأرجع الشباب إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمنَ عظامه، حتى إذا استجرْتُ به أجارني ولم يقل (أنا ضعيف كما ترى!)
وسألتُ فدُللْتُ على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، سيدِ البقية من التابعين؛ وقيل لي: أنه جمع كل عِلم وفن إلى الزهد والورع والعبادة، وإن لسانه السحر، وإن شخصه المغناطيس، وإنه ينطق بالحكمة كان في صدره إنجيلاً لم ينَزل، وأن أمه كانت مولاة لأم سَلمَة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت ربما غابت أمه في حاجة فيبكي، فترضعه أم سلمةُ تعلله بثديها فيدِرّ عليه، فكانت بينه وبين بَركة النبوة صلة
وعدوتُ إلى المسجد والحسَن في حلْقته يقص ويتكلم، فجلست حيث انتهى بي المجلس، وما كان غيرَ بعيد حتى عَرتني نَفْضةٌ كنفضة الحمى، إذ قرأ الشيخ هذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ للذين