أجل! إن الفتح الإسلامي لهو الفتح الأعظم، الذي لم يعرف التاريخ فتحاً مثله. وكثيرٌ هم الفاتحون، الذين فتحوا بلاداً واسعة بسيوفهم، وأخضعوها بجندهم، وحكموها بقوتهم وسطوتهم، ولكن ليس فيهم مثل المسلمين، الذي فتحوا البلاد بإيمانهم، وفتحوا القلوب بعد لهم، وفتحوا العقول بعلمهم، فكانوا أصحاب السلطان، وكانوا دعاة الإيمان، وكانوا بُناة المجد والحضارة والعمران
طبقوا في القرن السابع قواعد الحرب الإنسانية - التي علمت بها أوربة في القرن التاسع عشر وسعت إلى تطبيقها في القرن العشرين، فلما لم تفلح وغلبت طباعها الذئبية على إنسانيتها المصطنعة، اكتفت منها بتسطيرها في كتب الحقوق الدولية واخذ المجددون من الشرقيين. . . . . ببريقها ولمعانها!
لقد فتحنا ثلاثة أرباع العالم المتمدن، ولكنا كنا نحمل العلم والهدى، والعدل والغنى، إلى البلاد التي نفتحها، وكنا لا نعمد إلى الحرب إلا إذا اختار أعداؤنا الحرب، وأبوا أن يلبوا داعي الله - ثم لا نخون ولا نغدر، ولا نغل ولا نمثل، ولا نقتل رسولاً ولا نهدم منزلاً، ولا ننازل عُزلاً، ولا نهيج معتزلاً، ولا نمس عابداً متبتلاً.
ثم إذا صالحنا أعداؤنا، ودخلوا في ذمتنا، حميناهم مما نحمي منه أولادنا وأهلينا، وإذا أسلموا كانوا إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لا يفرق بين المسلمين عرق ولا لغة، ولا جاه ولا نسب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى
فأين هذه الفتوح من فتوح الاستعمار التي أثارتها أوربا؟ فتحنا البلاد فتركنا أهلها أحراراً في دينهم ومعابدهم، أحراراً في قضائهم ونظمهم، أحراراً في أموالهم وأولادهم، فملكنا بالعدل قلوب الناس وأسعدناهم بالعلم، وبسطنا عليهم ظلال الأمن، ونشرنا فوقهم لواء الحضارة، حتى لقد صار أهل البلاد يستصرخون المسلمين على حكوماتهم، ويبذلون لهم عونهم على ملوكهم لا بغضاً لملوكهم ولا عداء لأوطانهم، ولكن حباً في العدل، ورغبة في السلام، وشوقاً إلى العلم والحضارة والعمران
فتحنا الحيرة فأهدى أهلها طائعين مختارين هدية إلى أبي بكر فقلبها وعدها من الجزية عدلاً منه وتعففاً، وخشية أن يظلم أهل ذمته، أو أن يكلفهم شططاً، وتفتحون البلاد فَتَبْتزون