وكان يرى هذه الحياة كوقعة الطائر؛ هي عملُ جناحين مُسْتوفِزين أبداً لعملٍ آخر هو الأقوى والأشد، فلا ينزلان بطائرهما على شيٍ إلا مطويين على قدرة الارتفاع به، ولا يكونان أبداً إلا هَفَافين خفيفين على الطيران؛ إذ كانا في حكم الجو لا في حكم الأرض، وآلةُ الوقوع والطيران بالانسان شهواته ورغباته؛ فان حطته شهوةٌ لا ترفعه فقد او بقته وأهلكته وقذفت به ليؤخذ.
لقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يبلغ العبد ام يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس) وهذا ضربٌ من خشوع القلب المؤمن فيما يحل له، يدع أشياء كثيرة لا بأس عليه فها او أتاها، لقوى على أن يدع ما فيه بأس، فان الذي يترك ماله يكون أقوى على ترك ما ليس له.
والنفسُ لابدّ راجعةٌ يوماً إلى الآخرة، وتاركة اداتها؛ فقوام نظامها في الحياة الصحيحة ان تكون كل يمٍ كأنها ذهبت إلى الآخرة وجاءت. وتلك هي الحكمة فيما فرضته الشريعةُ الاسلامية من عبادةٍ راتبة تكون جزءاً من عمل الحياة في يومها وليلتها. فاذا لم تكن النفس في حياتها كأنها دائماً يذهب إلى مصيرها وترجع منه، طمسها الجسم وحبسها في إحدى الجهتين، فلم يبق لها فيه إلا أثر ضئيل لا يتجاوز النصح، كاعتراض المقتول على قاتله، يحاول أن يرد السيف بكلمة. . .! وبذلك يتضاعف الجسم في قوته ويشتد في صولته، ويتصرف المرء دينه، وتقذف به يميناً وشمالاً، على قصدٍ وعلى غير قصد، وتمضي به كما شاءت في مدرجةٍ مدرجةٍ من الشر؛ ومثلُ هذا المسرفِ على نفيه لا يكون تمييزه في الدين ولا إحساسه بالخير إلا كذلك السكير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جرتان من الخمر، فلما اتعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظ إيمانه وأراد ان يطيع الله ويتوب - نظر الى الجرتين ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه. . .!
قال الشيخ: ثم إني تُبتُ على يد الحسن، وأخلصت في التوبة وصححتها، وعلمت من فعله وقوله أن حقيقة الدين هي برياء النفس على شرها وظلمها وشهواته، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم هي في النفس أختُ الشجاعة القاتلة للعدو الباغي، يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك، وأن خشوع القلب هو معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها.