كل حقيقة، وتَخرج به من كل قانون؛ إذ تجعل الحقائق العامة محدودةً بالانسان وشهواته، لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل
ويخرج من هذا وذلك تقريرُ الإرادة الإنسانية، وإلزامُها الخيرَ والحق دون غيرهما، وقهرُها للذات وشهواتِها، وجعلُها الكبرياءَ الإنسانية كبرياءَ على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل. إذا تقرر كل ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرارا السكينة في النفس، ومحوِ الفوضى منها، وجَعْلِ نظامها في إحساس القلب وحده؛ فيحيا القلبُ في المؤمن حياةَ المعنى السامي، ويكون نبْضُه علامةَ الحياة في ذاتها، وخشوعُه لله وللحق علامة الحياة في كمالها
وقال:(ما نزَلَ من الحق) كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيا، فاذا هو ارتفع من الأرض، وقرره الناسً بعضُهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأسَ الإنسان، وأفسدتْه العقول؛ إذ كان الإنسان ظالماً متمرداً بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخه إلا اسماءُ ومعانيها وما كان شبيهاً بذلك ما يجيئه من أعلى؛ أيْ بالسلطان والقوة؛ فيكون حقاً (نازلاً) مُتدَفِّعاً كما يَتصَوبَّ الثُّقْلُ من عالٍ، ليس بينه وبين أن ينفذ شيء
والخشوعُ لما نزل من الحق ينفي خشوعاً آخر هو الذي أفسد ذاتَ البينِ من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصرافُ القلب اليها بايمان الطمع لا الحق
وبجملة الآية على ذلك الوجه يتحقق العدلُ والنصفَةُ بين الناس؛ فيكون العدل في ل مؤمنٍ شعوراً قلبياً، جارياً في الطبيعة لا مُتكلفاً من العقل؛ وبهذا وحده يكون للانسان إرادةٌ ثابتة على الحق في كل طريق، لا إرادةٌ لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة مُتسقةً في نظامها مع إرادة الله، لا نافرةً منها ولا متمردة علها؛ وهذا وذاك وذلك يُثبت القلبَ مهما اختلفت عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من إيمانه إلا سُموه وقوتهُ وثباتهً، وينزل العمرُ عنده منزلةَ اللحظة الواحدة، وما أيسرَ الصبرَ على لحظة! ما أهونَ شر (الآن) إن كان الخيرُ فيما بعده
ألم يأنِ؛ ألمْ يأن؛ ألم يأن. . . .
قال الشيخ: وكان الحَسنُ في معانيه الفاضلةِ هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا اسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعته منه؛ شعاره ابداً:(الآن قبل ألا يكون آن.) وغمامه: (خُذْ نفْسك من قلبك.)