تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى (الآن) دون غيره على كثرة المعاني
ثم قال:(للذين آمنوا) وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقومٌ بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعلِمُهم وجاهلُهم سوء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأن إنسانهم إنسانُ ترابي، لا يزال يضطربُ على مَْر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عَيشِه وموته؛ وما تقسو الحياةُ قسوتها على الناس الا بهم، وما ترقُّ رقتها إلا بالمؤمنين
وجَعل الخشوعَ لقلوب خاصةً، إذ كان خشوعُ القلب غير خشوع الجسم؛ فهذا الأخير لا يكون خشوعاُ، بل ذلاً، أو ضَعَةً، أو رياءً، أو نفاقاً، أو ما كان. أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصاً مُخلصاً مَحْضَ الإرادة
واشترطَ (القلبَ) كأنه يقول: إنما القلب أساسُ المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعاً لله وللحق. فان لم يكن قلبه على تلك الحال، نَبَعَ منه الفاسقُ والظالم والطاغية وكل ذي شر. ما أشبه القلبَ تنفرعُ منه معاني الخُلُق، بالحبة تَنسَرِحُ منها الشجرة؛ فخُذْ نفسَك من قلبك كما شئت؛ حُلواً من لوٍ ومُراً من مُر
وخشوعُ القلب لله وللحق، معناه السمو فوق حب الذات وفوق الأثرة والمطامع الفاسدة؛ وهذا يضع للمؤمن قاعدةَ الحياة الصحيحة، ويجعلُها في قانونين لا قانونٍ واحد؛ ومتى خشع القلب لله وللحق عَظُمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرةً كبيرةً وإن عَمِىَ الناسُ عنها، ويراها وهي بعيدةٌ منه بمثل عين العُقاب، يكون في لُوحِ الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرَى
وقد تخشع القلوبُ لبعض الأهواء خشوعاً هو شرٌ من الطغيان والقسوة؛ فتقييدُ خشوعِ القلب (بذكر الله) هو في نفسه نَفْيٌ لعبادة الهوى وعبادة الذاتِ الإنسانية في شهواتها.
وما الشهوةُ عند المخلوق الضعيف إلا إلهُ ساعتها. فيا ما أحكمَ وأعجبَ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَشربٌ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن). جَعَلَ نزعَ الايمان موقوتاً (بالحين) الذي تُقْتَفُ فيه المعصية؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك (الحين)
والخشوعُ لِمَا (نزَلَ من الحق) هو في مناه نَفْيٌ آخرٌ للكبرياء الإنسانية الي تُفسِد على المرء